الشعر ، اللغة الأولى والتي تعرّف عليها شعب ما في لحظة تاريخية مبكرة جداً . ومثال ذلك ما ابتكرته سومر من نصوص أولى وقد اعتمدت عليها لحماية وجودها البشري وكينونتها الإنسانية وهذا ما ذهب إليه هيغل ، عندما قال بأن الشعر وسيلة الحضارات في عتبتها الأولى لحماية نفسها وتسبح حياتها به وحمايتها من النثر . وتقود هذه الملاحظة مركزية وجوهرية انشغلت بها منذ زمن طويل بسبب انشغالي واهتمامي بالميثولوجيا العراقية والشرقية والتوراة . حيث استعانت الشعوب الأولى بالشعر كي تمنع النثر من التسلل لحياتها التي لا يمكن أن تكون غير شعرية وتحديداً تتشكل كينونتها شعرية وبالشعر ولا تسمح للنثر أن يخترق الثابت . لان السائد هو الشعر والذي صاغ كثيراً من الأنواع مثل الأسطورة / الحكمة / الأمثال / الملاحم / الوصايا . وأرجو ملاحظة مجال جوهري ، لا بل هو جوهر الجواهر واعني به أن الحياة كلها مصاغة شعراً . وحتى الأنواع الأدبية . التي ذكرناها مصاغة شعراً . ولان هايدجر أشار في حديثه عن الشعر والفلسفة متماشياً مع هيغل لم يصرح بل سحن رأيه بقول أخر ، غير متعارض مع ما سبق ، بل متماهياً معه والاختلاف بين الرأيين هو الملفوظات أو الخطاب الذي سجل . 

واجد ضرورة التذكير برأي هيغل وأهميته بسبب بكريته وقد تعامل مع الشعر بوصفه اللغة الأولى وأنا اذهب ابعد وأقول بأنه كلام عتبة بكرية وظفته الجماعات البدائية مشتركاً بين الجماعات الأخرى وحيوية الرأي الخاص بهايدجر هو أن الآلية المشحونة بالتوتر والذهاب نحو ما هو غائب وغير مباشر حيث أكد أن الشعر هو الفاعل القوي في اقتراح الانطولوجيا وتأسيس الوجود ، كذلك استكمل هذا الرأي الحيوي عندما قال بأن اللغة البدئية هي اخطر الملكات التي عرفها الإنسان الأول وحاز عليها وصارت ملكيته زمناً طويلاً ، حتى اللحظة التي تحول فيها المنشد الواحد الى جماعة منشدة ، وتتشارك أكثر من واحد في كتابة الشعر . وأيضا اللحظة التي اصطف فيها الشعر مع اللاهوت .

وارتضى بمجاورة الكاهن له وتحول وسيلة للدين لصوغ ما تريده السلطة السياسية / الاجتماعية / الدينية . لكن هذا التغير الجوهري فرض على الشعر مرحلة جديدة هي متطلبات المتغير السياسي والديني وتداخل الشعر مع النثر . وتميز الشعر بذكاء أقوى لأنه أدرك مجازاً بأنه مضطر للتشارك بالنثر والتحاور معه . من هنا اجد بأن مقولة هايدجر المعروفة جداً والغائبة وسط الحياة الثقافية بنسبة واسعة وهي أن الشعر هو العمل الأكثر خطورة وفي الوقت نفسه أكثر المشاغل براءة . هذه الصفة التي ذهب إليها هايدجر ـ البراءة ـ منحته فرصة اللعب والتبادل العاجل والسريع بين أفراد الجماعة / الجماعات .... واللعب دخول الحياة والكينونة والتعامل معها باعتبارها طقساً ، لأنه ـ الطقس ـ يفضي نحو البراءة ، واللعب مركزها . والكائن الذي يحول الشعر الى لعبة بريئة ، قادر على استحضار واستدعاء الأفراد الآخرين للتشارك معاً ، وينسب كل واحد منهم ذاته وينغمر مع ذوات أخرى / الجماعات وبعدها سينسى كل كائن / ذاته ونجده ـ كما قال هايدجر ينكب على عمق أعماق وجوده في العالم ، حينها يتوصل الى الدَّعة .

العلاقة مع الشعر ، هي لحظة زمنية أولى ، بدئية كان الإله فيها هو الخالق الأول والمبدع الناعم في قول الكلام وكلام الله شعر معروف وفرض الإله على الأخر أن يذهب نحو الشعر اعمام كل الزولات بوسيلة ناعمة وشعرية وأوضح هايدجر هذا الرأي وعلاقته مع كلام الإله ، لأنه قال من اجل تعميم ما يريد الاستماع إليه وتوسيع مساحة الجماعات ، حتى يجعلها عارفة بالذي أراده وعليهم العمل به وتطويره عبر الطقوس والعقائد والأساطير ، هذه كلها تسلل إليها الشعر ، لذا لا يمكن عزل الشعر عن الأسطورة التي أفضت إليه ما كان لديها وما يميزها واعني به الرمز / المجاز . من هنا لابد عليّ من التذكير بمقولة كاسييرر الشهيرة عندما أطلق على الأشكال الرمزية فلسفة ، ويستدعي هذا القول استدعاء كل ما يقال والتعامل مع شبكات الرموز الموجودة فيه ، وهذا يتبدّى في عمق معناه عن علاقة وثيقة بين الرموز / الطقوس / الأساطير والجماعات .

لا يمكن أن يكون الشعر بعيداً عن الفلسفة ، وذلك لسبب مركزي وجوهري وهو أن الشعر وريث الأسطورة لذا انتقلت عناصرها الفنية والبنائية للشعر وهو ما عرفناه من خلال المجاز ، الرمز وتجوهر الاستعارة لذا أنا اعتقد لا وجود لمسافة فاصلة بين الأسطورة والشعر ، كذلك وجود الشعر في كل الفنون كما قال هايدجر ، فالفنون والأنواع غير قادرة على الابتعاد عنه ، لانها تفقد أهم خصائصها . ولان الفنون تحتاج الشعر / كي تبقى حيّة وخالدة ، تذهب إليه وتستعين به . هذا ينفتح لفضاء العودة وللسحر والطقوس والأسطورة ، للاستفادة من شبكاتها الرمزية وعلاماتها وتوظيفاتها في الفنون مثل الأختام الاسطوانية ، والدلايات والمنحونات . وأكثر حضورات تلك الرموز والعلامات ، هي التي اقترنت مع البدايات الاولى للفنون التي عرفتها بلاد سومر وكان الفخار والأختام هي التمظهرات البدئية لذلك خضعت لتطور تدريجي .

درس الفيلسوف هيغل في موسوعته الفلسفية حضورات الاسطورة والشبكات الرمزية في الفنون كلها ابتداء بفن الشعر / وفن النحت / فن الرسم / فن الموسيقى / الفن الرمزي / الفن الرومانسي / الفن الكلاسيكي / فن العمارة . وتوصل الى أن المقدس أكثر حضوراً في كل الفنون ، لأنها ذات وظيفة دينية مباشرة . وما أكد على هذه الخاصية المميزة جداً وجود الإلهة في الأختام الاسطوانية أو الرموز الدالة عليها . وأشار هيغل في كتابة فن الشعر “ أن الشاعر الذي يرتفع فوق محدودية أحواله الداخلية الخاصة والمواقف الخارجية ، وكذلك فوق محدودية التمثلات المرتبطة بها ، ليركز اهتمامه على ما يعتبره هو وأمته انه هو الإلهي والمطلق ، يمكن له بادئ ذي بدء أن يكون لنفسه عن الإلهي صورة موضوعية وان يستخدم هذه الصورة ، الموقوفة على التأمل وعن عظمته / ص265.

عرض مقالات: