رواية “حرائق الصورة الأخيرة” للروائي خالد موسى الجميلي والصادرة عن دار الابداع للطباعة والنشر ٢٠٢١ ،اثبتت وبجدارة ان الرواية الحقيقية هي كالحياة تمامًا، فهي ليست مجرد كلمات متزاحمة ومتراكمة على السطور ومجردة من المشاعر الصادقة والجياشة ! بل هي بمثابة التجربة الحياتية الرائدة ، والامتحان المصيري الصعب ، والاختيار الحاسم ، وخوض معترك الحياة لشخوص حقيقيين واصليين جداً مرسومين ببراعة وإحكام واتقان ، ومأخوذين من صميم الواقع المعاش بارهاصاته وتقلباته وانفعالاته ومعطياته، لدرجة يشعر القارئ كأنه هو الشخصية الرئيسية  التي تأخذ دور البطولة بجدارة و المعني الاوحد بكل تلك الاحداث المريرة وكل تلك المشاعر المشحونة بالمعاناة والألم والحزن والعذاب والفقد ، تلك المشاعر المسحوقة بين مطرقة الحروب البائسة وبراثنها المقيته و سندان الحب القاسي الملبد بالتخلي والخيانة وانعدام الوفاء والجشع وحب المال ... 

باختصار انها رواية الحب والحرب وما بينهما من خيط رفيع لايراه الا من عانى ألم الاثنين ، واختبر مراحل تحول الحب الأسطوري بين طرفين مُحبين لبعضهما البعض الى حرب عتيدة تنسف كل الذكريات الجميلة.. من دون اي اكتراث من الطرف المتخلي المشكوك بوفائه وصدقه، و بجرح عميق و ألم ممض وكمد وحسرة حد الانهيار من الطرف المتمسك و المستميت من اجل البقاء بالقرب من حبيبه! 

فقد تناولت الرواية الحرب من كل جوانبها المرئية وغير المرئية للعيان ووقعها النفسي والاعتباري على الفرد بصورة خاصة والمجتمع بصورة عامة ،وما يترتب عليها من عجز وعزوف روحي ونفسي للإنسان اتجاه الحياة والحب، فالحرب هي السبب الذي تعكز عليها كل النص الروائي فكانت هي الافكار الأكبر التي انضوت داخل اطارها قصة حب باءت بالفشل ، اذ عمد الروائي ان يخلق حالة من التلاقح المتناغم بين ويلات الحروب وخسارات الحب الناتج عنها ، ولهذا اتشح النص بالسوداوية وغياب الأمل واليأس المدقع ... تلك الحروب الدموية التي تجر بأذيال مئات الرجال الى الموت ممن لاحول لهم ولا قوة سوى تنفيذ الاوامر المطلقة والموجهة من الحكومة بسلطتها التعسفية، واي مخالفة مهما كانت بسيطة من قبلهم حتى وان كانت سهواً او تحت ظروف قسرية فسوف يكون مصيرهم الهلاك المحتوم... الحروب التي ليس من شأنها ان تقتل الاجساد وتحملها على ظهور خشبية ملتفة بالاعلام فقط، بل هي كفيلة بأن تقتل اكبر حب تحت ذريعة التهديد المستمر بالموت في اكثر بقاع الارض بؤساً الا وهي الجبهة! التي لا تعني سوى الموت والعوق والخوف خلف تلك السواتر الملطخة بدماء الرفاق ، وفي باطن الخنادق تلك الشقوق الأرضية التي تضوع برائحة البارود الخانق وخيبة الفراق، والمشحونة بضجيج المدافع والبنادق والسيارات العسكرية المزدحمة بالجنود المأخوذين عنوة لها ، وما يترتب عليها من احتمالية الفقد الذي يداهم حياة المحبين على حين غرة قبل حتى الشروع بتأسيس حياتهم ، فالحروب جاءت لتعيش السلطات على اكوام جثث الجنود والخوذ والقلائد المعدنية ، وليموت الحب الذي يولد من رحم الحرمان والفاقة..

الحروب التي لم تخلف سوى الفقر والموت وخسارة الحب و تسرق حتى الجلوس مع الصديق، فمن ترتضي ان تتزوج من مشروع شهيد لتكون ارملة مع وقف التنفيذ؟ مقابل فتات الدنانير التي ترمى لهم مع نهاية كل شهر ولا تتناسب مع تلك التضحيات الجسيمة ! ومن هنا تنطلق الرواية بسلسلة من الاحداث لقصة حب ولدت لتموت تحت سطوة الحرب والفقر والجشع! بين (أحلام) و (طارق) الشخصية الرئيسية التي يصفها الروائي غائب طعمة فرمان (ان الشخصية الرئيسية تكون قوة الأحداث وحركة الصراع مركزة عليها فهي نقطة ارتكاز البنية الروائية ومنها تنطلق الفعاليات المختلفة إذ يتجلى دورها في إثراء الحدث ونمو الفكرة وتداعيها) وبمساعدة شخصيات ثانوية بعضها ذات أثر إيجابي والبعض الآخر أثر سلبي تتباين في أدوارها ومهمتها في دفع عملية التنامي السردي إلى الأمام، تظهر وتختفي بالتتابع … (طارق) هو العاشق المهزوم و الجندي الذليل والفقير الذي تعود على الخسارة طوال حياته ،والمتقبل لفكرة الموت مع كل التحاق بخطوط القتال،الذي يتحكم بمصيره الباحثون عن السلطة وأصحاب القلوب القاسية وصناع الحروب وحراس السلطة، وذاق مرارة الهزيمة بسبب الحرب والفقر ، بعد ان وقف الوطن بوجهه وخسر حربه الأولى للفوز بقلعته الاخيرة أحلام التي كانت تمنحه الأمل وفرصة للمقاومة بوجه مآسي الحروب، أحلام فتاة قروية من عائلة فقيرة جداً، فضلت المال على من تحب لتبيع نفسها لتاجر المواشي الغني (عبدالله الحامد) الذي اشتراها بماله!وكما عرف جيرالد برنس الحدث الروائي بأنه (مجموعة من الوقائع المتصلة والمتسلسلة تقسم بالدلالة وتتلاحق من خلال بداية وعقدة وحل ) اذ اخذت احداث الرواية بالتنامي بشكل هرمي مع حضور السببية المنطقية لهذا التنامي الا وهي الحرب والجشع، ويستمر النص الروائي على هذه الوتيرة من التصاعد والتداعي للاحداث والشخوص والحوارات والأماكن ، لتنتهي الرواية نهاية دراماتيكية بموت أحلام حرقاً بعد ان احرق طارق اخر صورة يمتلكها لها ،تلك الصورة التي لطالما كانت نذيراً للشؤم ترسم طريقة موتها التي تنبأت بها بطريقة غير مباشرة !ان هذه النهاية تحمل بين طياتها ضرباً من ضروب الخيال ومخالفة لحدود المنطق نوعاً ما ولا يمكن تصديقها من قبل القارئ ! الا بعد تصنيفها ضمن النهايات الفانتازية وتدخل في خانة الغرائبية من زاوية اخرى ! ولكنها اضفت واقعية سحرية للرواية مما اعطى طابعاً تشويقياً ساحراً وجاذباً للقارئ ، وقد تحمل هذه النهاية قصدية يختلف القراء في تأويلها فكل نص ينفتح على تأويلات عديدة بتنوع وتعدد القراء ،ومن هذه الجزئية انبثقت فكرة العنوان الذي يعد العتبة الأولى للنص والنافذة الاستشرافية لمعرفة بعض الشيء عن قصديته وقد يتحول احياناً كثيرة الى نص موازي للمتن الرئيسي، ومن منطلق عتبة العنوان استطاع الكاتب من مد جسر امام القارئ ئللولوج الى معترك الرواية وكما ذكر عبدالملك اشهبون في عتبات كتابة الرواية العربية (هي مدخل كل شيء وأول ما يقع عليه البصر وتدركه البصيرة باعتبار العتبات نصوصاً انتقائية نحو النص المركزي ، والعتبات فضاء بيني تجسيري بالدرجة الأولى لانها تمكن القارئ من العبور من عالم اللانص الخارج الى عالم النص الداخل).

اما من ناحية السرد فقد كان بضمير المتكلم (أنا) وهذا السياق يقول عنه الدكتور عبد الملك مرتاض (ان ضمير المتكلم يذيب النص السردي في التناص فيجعل القارئ ينسى المؤلف وهكذا يستطيع التوغل في أعماق النفس البشرية فيعريها بصدق ويكشف عن نواياها ويقدمها للقارئ كما هي لا كما يحب)  وامتاز السارد بكونه سارداً مشاركاً في النص وهو النوع من الرواة الذي يعرف عن الاحداث بقدر علم القارئ  بها و يستقبل فيه المتلقي الاحداث مباشرة من الذات الساردة التي عايشتها ، واما اللغة والتي تعد عنصراً مهماً في إدارة النص الروائي والتعبير عنه فلم تكن لغة فلسفية او معقدة ترتقي لمستوى النخبوية او مثيرة للجدل والتساؤلات بل على العكس فقد اتسمت بسلاسة المفردة وبساطتها، مراعياً الروائي من خلالها كافة المستويات الثقافية والمعرفية للقراء، ومن ناحية الزمن فقد تلاعب الروائي بها على نحو عالٍ من الحرفية واستخدام تقنيات سردية و ادغامها ضمن متن الرواية لسد الثغرات السردية وتماسك الأحداث المتشظية هنا وهناك بين الماضي والحاضر ،مثل استرجاعات خارجية وداخلية وكذلك الاستباقات لإثارة عنصر التشويق السردي للقارئ لينسج المتن الروائي بشكل متماسك وبالتالي إيصال القصة كاملة بأجزائها واحداثها ومعطياتها! وقد تجسدت مأساوية الحروب داخل المتن الروائي ايضاً من خلال استخدم الروائي للمونولوجات (الحوارات الداخلية) مثل (لامجال للهرب ولا فرصة للحياة سأعيش بالصدفة اذا اخطأتني الشظايا واخطأني الرصاص او  اموت بالصدفة اذا ما استدلت علي رصاصة او شظية عابرة تلك هي قوانين الحرب) …(احمل معي قرص الالمنيوم الذي سيتم التعرف به على جثتي المشوهة او المحروقة) …(هاهو الوطن ياخذني الى الحرب الى ابعد نقطة منه هناك في ارض بعيدة حيث يعيش الرجال في شقوق الأرض وتتساقط فوقهم الشظايا كالامطار).  

واخيراً ان رواية “حرائق الصورة الأخيرة” هي رواية الحب والحرب وما بينهما من خيبة ! تحمل على عاتقها مسؤولية نقل الواقع بحذافيره وتقديمه للمتلقي مهما كان صادماً وسوداوياً ، وترسم صورة الوطن القاسي بفرشاة الحقيقة المرة المجردة من التجميل الزائف والمجاملات البائسة …الوطن الذي يأخذ من الفقراء ثمناً غالياً يكلفهم ارواحهم في أحيان كثيرة! لمجرد انهم يعيشون ضمن حدوده ويتنفسون هواءه !

عرض مقالات: