اخر الاخبار

تضعنا تجربة الشاعر عمر السراي في موقف جدير بالتأمل، لأنه صاحب موهبة بارعة، يقدم في كل مرة ما هو مثير في النص الأدبي، من حيث التكامل بين ما هو جمالي وما هو فكري، ويحرص على تقديم الصورة الفنية على نحو من الخصوبة والامتلاء، يجعلها تخفي أكثر من معنى فيما وراء الكلمات، فلغته الأنيقة تحمل أوجه متعددة بما هو ظاهر، ولا تخلو من باطن مضمر يحتجب بين السطور.

دعونا نتوقف قليلاً نتبصر على نحو موجز في خبايا المخرجات النفسية لعملية الإبداع والابتكار، لكي نتعرف على لحظة ابداع الشعر، ونتبين كيف يصل الشاعر في المحصلة النهائية الى اتمام المغامرة التخليقية أو التكوينية. إذ يرى (فرويد) بأن العملية الإبداعية هي تعويض عن حالات مكبوتة في أعماق النفس الجوانية، وتحقيق هذه المكبوتات التي لم يشبعها الواقع يتم في مطلق الخيال، وتشكل هذه الرغبات اللاشعورية المضمون الخفي للمؤلفات الأدبية والفنية كافة. في حين يتمحور اعتقاد (يونغ) على أن الوظيفة الإبداعية تلازم اللاشعور الجمعي الراقد تحت عتبة اللاوعي الفردي، ويرى أن هذه المنطقة تشبه قبواً ضخماً لا تثوي فيه المكبوتات والعقد النفسية فقط، وإنما محتويات لم تبلغ بعد من القيمة والشدة اللتين تسمحان لها بعبور عتبة الوعي، رغم أنها موجودة، وسيصبح البعض منها لاحقاً واعياً. وتعد المخيلة عند الشاعر على وجه الخصوص هي المشغل الابتكاري الذي تبلور سيرورة اللفظ والمعنى، المحملة برؤية الشاعر بأشكال جمالية على نحو متفاوت في التمظهرات الصدقية، والتفاوت هنا نسبي بين الواقع والصدق الفني، إذ يتسع ويضيق.. صعوداً وتراجعاً، وذلك بالارتكاز على استغلال قدرات التخييل مع ممكنات العقل الواعي، عبر دفقات من الصور الذهنية المعبرة عن وجدان الشاعر المشحون بالأحاسيس والعواطف البشرية، وذلك لأن للقصدية تأثيرها الكبير في بناء الخطاب، من حيث انها سمة تعقل، تشمل الاعتقادات والرغبات، ولا يمكننا أن نفهم القصدية إلا عن طريق الشعور، وهذا لا ينفي وجود حالات قصدية كثيرة لاشعورية، بمعنى هناك نية استقصاد في الانتقال من اللاشعور الى الشعور في النص الإبداعي.

سقت هذه المقدمة الوجيزة بهدف تسليط الضوء على منابع البوح الانفعالي لدى الشاعر المبدع عمر السراي، بهدف الاستغراق في تأمل منابت التخييلات التي بلورت دفقات من التعبيرات الوجدانية المنثالة، وتفحص ما جادت بها قريحة الشاعر من دلالات جمالية مكثفة، حيث انقدحت شرارة الاشتغالات التخليقية في مشغله الكتابي، وصاغ بأدوات الجمال التعبيرية نصاً أدبياً بعنوان (عن العمّال وعيدهم)، وهذا المنجز النصي هو رحلة حقيقية في أعماق الذات، مكتوب بأسلوب رشيق وبسيط ولماح تطغي عليه مسحة قصصية، يذكر بعضاً من تفاصيل حياته، وفيه وقف وقفة المتأمل لتلك المرحلة، سعى الى توظيف ما هو عام في التجارب الإنسانية، وتبقى تجاربه الشخصية بين ثنايا هذا النص هي المائزة وهو مدركها، وليس صعباً أن نتخيّل مكابدات وقساوة المعاناة في التجربة الفردية، بتفحص احتدامات الذات الشاعرة في هذا النص عبر انتقال المداليل الى اللغة الموحية التي جسدت حقاً صدق الأحاسيس والانفعالات في الصور الشعرية الكاشفة عن تاريخ من الوجع، سيما حين أوقد الأنوار تجاه لقطات منتزعة من أحشاء الحياة، متنقلاً الى مرتبة أعلى من القيمة التعبيرية لمحمولات الذاكرة في ذلك المفصل الزمني، جاعلاً منها أكثر ادهاشاً بما صارت تحمله من طاقات كامنة، ستفضي حتما الى مثابات التأويل لقراءة كل ما هو محتجب أو مضمر غير مباشر يرقد في أعماق هذا النص الأدبي:

“حينما كان الطفلُ يحاول أن يحرّكَ عربةَ البناء الممتلئة بالأنقاض، خانته عضلاتُه الصغيرة لتنقلب وسط موقع البناء الكبير”.

ينطلق الشاعر في هذا النص من الرؤية الأحادية الى الواقع العام، ويحرص على ابراز الطاقة التعبيرية في تشكيل بانوراما من الصور المتلاحقة، حيث تتلاحم في إطار موحد، مليء بالرموز التي تقودك الى فتح الأبواب على المعنى ومن ثم معنى آخر، يتنفس فيه الخاص والعام، السياق النفسي مع الحياة العامة، انفعالات مثقلة بالتوترات، تفيض المشاعر الجياشة في وجدان الشاعر مشحونة بالأسى، النفس تتأوه، وهي تنوء بثقل الحياة، فيأتي صوته من دواخل الذات معلناً:

“عجزت أذناهُ البسيطتان عن فرز صوت الصراخ من صوت الشتائم من صوت المدافعين عن سطوة دموعه المتلألئة وقتها”.

كانت هناك مرارة، لكن صدمة انكسار الروح هي التي تحرك الساكن، وتفتح الأبواب على الأسئلة المرتبطة بالواقع، شجون الناس.. الفقر.. والتفاوت الطبقي، وما من غشاوة فوق العيون تحجب الرؤيا، ظل يترصد بالبصر والبصيرة كل ما يدور حوله، وفي خضم المعاناة يأتي الآه المداف في أنين الأبوذية من بعيد، تتصاعد خفقات القلب مع ايقاعات الأحزان، فيسعد بلذاذة صوت منغم تناهى الى المسامع، حتى لو يبدد نتقاً من اشتداد الضيق على الأنفاس، ينشأ الادراك.. يتحقق الفهم.. ينمو يتعمق ويتسع، ويبدأ التخيل، وتتسرب الى دواخله غواية اكتشاف أسرار الجمال العميقة، حين يقول:

“فزّ من غفلته الناعسة... وأصغى لصوتٍ كان يأتيه من آخر السماوات، صوتُ موّالٍ جنوبيٍّ تتفطّر نبراته كما الأرض، ترك القوري منجذباً كبعوضة نحو شمعة، وهو يشمُّ جناسات الأبوذية، لتقفَ عيناهُ عند سقّالةٍ لم يعرف كيف استطاعت أن تحمل كل هذا الجبروت، فوزن الحنجرة التي فوقها تزن أجراماً ضخمة”.

مرحلة الصبا والنضج محتشدة بالأحلام، منها ما هو غاطس في بحر الروح، ومنها ما يستوطن في الذاكرة ويلامس المخيال، وما كان لهذا الشاعر أن يقوى وينضج لولا ذلك المقدار من الطموح وبذرة الثقة بالنفس، يعيش القلق، لم يستسلم، يرود متاهات الخيال، وتأخذه الخطى المرتبكة في تحدٍ نحو اغتناء الوعي، تفضي به الى دروب التمرد، يلعن فروض الطاعة، يُقلب وجوه الحال والأحوال، ويغرق في التأمل، ما عاد يقبل ويتقبل مسكنات الأوجاع، لم تنطفئ بارقة الأمل، مثل كرة الثلج تكبر الآمال شيئاً فشيئاً، يتشاطر.. يبحث عن ملاذ يعيد للروح الاتزان، يتشوق الانفلات من كل السطوات، فيجنح الى الفرار عن سبق اصرار، مسلماً نفسه الى خطوات القدر، واصفاً مكابدات ذلك المشهد، بقوله:

“كانت قدماهُ الحافيتان تأكلان الإسفلت في حرّ تموز، وصوت (الخلفة) يتبعه، كان يركض أسرع من الريح، لكنّ الصوت يسبقه، كان يطيرُ فوق المياه الآسنة، وأحراش الجزرات الوسطيّة للشوارع، فيطير الصوت حاطّاً فوق رأسه”.

ظل مهجوساً يتطلع لما هو آت، ينّشَد استنهاض ما في الدواخل، انتظر سنة سنتين عقداً وأزيد، عل وعسى يمسك بيده مفتاحاً، وإذا به يلج الى حقول الإبداع، يتحرك في سياق الوعي والرغبة نحو غد مشرق. والأمر الذي لاشك فيه كون الشعر بصفة عامة يستدعي الموقف، ويستدعي الانحياز، فيخرج الى المستوى الإنساني الشامل، منحازاً الى حيث يكون الإنسان بلا استعباد، وهنا يحسن أن نشير الى أن هذا النص الذي يثير فينا الأحاسيس والأفكار، يقارب الماضي بالحاضر، ويستعيد ما تراه العيون في تصوير البعض من يوميات الواقع، يستحضرها ببراعة ليقدم أفكاره الجريئة عن قساوة الحياة في الزمن الاستثنائي، وينفذ الى ما وراءها من تفاصيل غير مرئية، مقدماً لنا رؤية معبأة بهموم سائر الكادحين من الشغيلة، محوطة بمشاعر شفيفة، تناصر مطالبهم المشروعة، تمجد الفعل الثوري، تفضح الفساد، وتلعن سراق الأحلام، ولسان حاله يتعالى بالفم الملآن،  مردداً:

“لقد سرق الساسةُ أحلام آبائنا، لكنّهم لم يستطيعوا أن يسرقوا حناجرهم، حناجرهم التي ستظل تتظاهر صبيحة كل عيد للعمال، وتشجب الفساد الذي لن يقوى على إغلاق أغنية تطيرُ من حنجرة عامل فوق سقّالة”.

لا نستطيع الايفاء في القول بكل ما يستحق عمر السراي هذا الشاعر المبدع الذي يحوز على الكثير من الألق، ويعيش هاجس التجدد دوماً، وأن ما جرى تدوينه في هذه القراءة لا يزيد عن كونه انطباع متابع شغوف بالأدب، ولم يتأتى إلا بدافع المحبة، حينما غمرني الانبهار وعشت المتعة في لحظة الاطلاع على هذا النص الأدبي الحافل بإشراق جمالي وقدر كبير من الحقيقة.

عرض مقالات: