اخر الاخبار

(1)

ألزمت نفسي، وأنا أقرأ  مجموعة (عبد الأمير خليل مراد) الشعرية التي تخيّر لها عنوان (مكابدات الحافي) أن أؤجل ـ حتى حين ـ قراءة الكتابات النقدية التي تناولت تجربته، وهي كثيرة، كي أدلف إلى تأمل قصائده من دون تصورات مسبقة عن الشاعر الذي تشير بعض تفصيلات سيرته إلى توجهه نحو نظم الشعرمنذ بواكير شبابه، وإن لم تصدر له أية محموعة شعرية حتى سنة 1985م، التي شهدت صدور مجموعته الأولى (الوطن أول الأشياء)، ليتبعها في السنوات اللاحقة بخمس مجموعات، كانت (مكابدات الحافي) ـ التي بين أيدينا والصادرة سنة 2021م ـ الأخيرة فيهن. وقد انتظمت في ثلاث عشرة قصيدة غلب عليها شعر التفعيلة الذي استقرت عند شكله توجهات الشاعر بعد أن كانت مراحل تأسيسه الأولى ـ كما هو الحال عند كثير من الشعراء ـ النسج على قالب الشطرين المعهود.

(2)

يعرّف القناع ـ على وفق ما نظّر له الشاعر الرائد (عبد الوهاب البياتي)  في كتابه (تجربتي الشعرية) ـ بكونه “ الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجرداً من ذاتيته، أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية “ التي طالت هيمنتها على الشعرية العربية.

ومن منطلق هذا التقنين الفني (للقناع) كتب البياتي أمثلته الشعرية المتميزة التي عدّت الأولى في هذا المسار التعبيري الخصيب الذي تبناه كثير من الشعراء بعده، وحتى وقتنا الراهن، لتندرج (قصيدة القناع) في مساحة من الاشتغال الدرامي المؤسس على استدعاء شخصية تاريحية غالباً، يستنطقها الشاعر ـ مستمداً من حضورها المتعين في وقائع عصرهاً ـ لتقول ما يتماهى فيه البعدان : التاريخي الخاص بتلك الشخصية، والحاضر الذي يرصده الشاعر مستعيداً بكشوفات وقائعه  الراهنة، وذلك ما تهيأ لقصائد للشاعر في هذه المجموعة  أن تتمثله، وبخصوصية أداء تخيّرها، متداولاً فيها عدداً من الشخصيات التاريخية والأدبية والفنية، عبر استدعاء تعبيري لها ـ أقنعة وتشخيصاً رامزاً ـ تكيّف بنزعة (درامية) خاصة. وكانت شخصية (بشر الحافي) هي الأبرز بين تلك الشخصيات، فقد ترسخ وجودها في عتبة (العنونة)، وبين أسطر (الإهداء) ، ثم ليترسمه الشاعر في نصين طويلين، هما : (مكابدات الحافي) الذي جاء في سبعة مقاطع، و: (من أحوال الحافي وأمانيه)، وهو في أربعة وأربعين مقطعاً.

وبشر (المتوفى سنة 237هـ) الذي أمسى (الحافي) لقباً متماهياً مع اسمه واحداً من أشهر الزهاد والعارفين الذين تذكر لهم المواقف والكرامات. وكان في مرحلة طويلة من حياته رجلاً دنيوياً غارقاً في ملذاته، حتى حصل الموقف الذي كان للإمام موسى الكاظم (ع) معه، وعدّ سبباً في تغييرمسار حياته كلياً، إذ تاب على يديه، مترفعاً بعدها عن كل شأن دنيوي، وسالكاً سبل الزهد بروحانية لاتجارى.

لقد استدعى (عبد الأمير خليل مراد) مسمى هذه الشخصية ونثر بين متون قصائده بعض ما كان لها من مواقف وتفوهات ليبني عليها أفكاراً وتجليات لم تكن منهمكة بأحوال ومواقف شخصية تجمع بين الشاعر وقناعه، فقد جعله منطلق ترسم مثالي لكثير من الشخصيات التي واجهت ترديات أزمنتها، والأزمنة اللاحقة، وما انسل منها في الحاضر وأمعن في التفشي مهيمنات فكرية وسلوكية يريد الشاعر أن يواجهها ـ عبر قناعه ـ بطروحات عرفانية ومعرفية تجادلها في مسعى لمغالبتها.

وتأسيساً على هذه الرؤية تمثل الشاعر(الحافي) قناعاً استعاد عن طريقه بعض الوقائع المتعلقة بوجوده القار تاريخياً  في مقاطع محددة، في حين شرع حضوره إلى أبعد من ذلك في مقاطع أخرى، ليشكل منه وجوداً فياض التجلي بأزمنته وأمكنته :                 

وهكذا استحال (الحافي) شحصية محملة بكل إشكالات الماضي ومكابدات الحاضر، وهموم الإنسان وما يعاينه من قضايا تستبد بوجوده وتبهضه.

وإذا كان الشاعر قد خص (الحافي) بقصيدتيه الطويلتين فإن قصائد الشخصيات الأخرى (جواد سليم / الشابي / طرفة) لم تكن بعيدة في متون تمثلها عن شخصية الحافي.

(3)

لانستطيع أن نغالب قناعتنا بأن قصيدتيه عن (الحافي) إنما هما قصيدة واحدة، لاشتغالهما على متن فكري واحد، ولهيمنة بناء لغوي وموسيقي منشابه بينهما، حتى أن كثيراً من مقاطع القصيدتين ابتدأت بجملة مكرورة هي : (أنا بشر الحافي)، لتنهال بعدها الأفكار والرؤى والمواجد.

ولو أن الشاعر جعلهما قصيدة واحدة لكنا إزاء نص من (المونودراما) الذي يستجيب لأداء مسرحي تتعدد فيه تشكلات التمثل المتبادل بين الشاعر وقناعه، وتلك الشخصيات التي تستدعى من أزمنتها المتباعدة وأماكنها المختلفة، ليتماهى أفق حضورها  بين طيات صوت الشاعر وقناعه، وهما يتيحان لنا أن نستل أحدهما من الآخر ليتبادلا  البوح وسياق التعبيرالذي يكتمل به وجودهما معاً.

وتبقى لتجربة (عبد الأمير خليل مراد) في ديوانه الأخير امتيازات رؤى وتشكلات بنى جديرة بااتأمل والإستيقاف النقدي، كونها تعلن عن كثير من الفرادة والتمبز، سواء في ترسم المتن التراثي، وتخيّرالشخصيات، وإعادة تشكيل وجودها عبر استنطاق إنساني متسع القيم، أو في اللغة المكتظة بطاقات من الإدلال العمبق، أو في طبيعة التنضيد البنائي المعلن عن تمسك الشاعر بالقالب (التفعيلي) الذي لم يغادره في معظم تشكلات قصائده إلا ليستحضر قالب (الشطرين)، مخبراً بذلك عن تيقن بأهمية الشكل الشعري المقنن في بنائه الإيقاعي لإستدراج بوح تعبيري لافت.

عرض مقالات: