اخر الاخبار

يعد القاص والروائي والصحفي والسياسي ذو النون أيوب أحد رواد القصة في العراق حيث كتب في مطلع القرن الماضي كثيرا من القصص والروايات، كما كتب سيرته الذاتية في أجزاء كثيرة فيها كشف حقبة مهمة من تاريخ العراق في القرن الماضي، وهو من القصاصين العراقيين الواقعيين الذين كانوا يسلطون كاميرا فاحصة على حركة المجتمع ويحاولون نقلها إلى ميادين قصصهم بقوة تأثير عالية، وقد كان له في هذا السبيل تأثير مهم في تلك الحقبة التي عاشها مع العلم أنه عاصر حكومات عراقية كثيرة إذ توفي عن عمر ناهز التسعين عاما تقريبا عام 1997، لكن منجزه القصصي والروائي كان في المرحلة الأولى من حياته حين كان شعلة من نشاط أدبي كبير.

المجموعة القصصية الأولى له كان عنوانها (رُسلُ الثقافة) وصدرت الطبعة الأولى منها عام  1937 وقد تصدرها إهداء يترجم هذا العنوان ويسنده، وهذا الإهداء يشير إلى كونه اشتغل كثيرا في مهنة التعليم منذ نهاية العقد الثاني من القرن الماضي، ويقول هذا الإهداء الموجه حصراً لرفاق المهنة:

(إلى من حملوا على عاتقهم أعظم مهمة.

إلى من حرموا من كل ما يسمى سلطة أو سطوة.

إلى رفيقاتي ورفاقي في المهنة.)

يتضح أن هذا الإهداء موجه إلى طبقة المعلمين والمدرسين حيث امتهن هو هذه المهنة سنين طويلة وله فيها تجربة كبيرة، فهو يسميها في عتبة الإهداء (أعظم مهنة) ويصف أصحابها بأنهم كانوا بعيدين عن السلطة والسطوة، لأن مهنتهم التعليمية والتربوية تقتضي التفرغ التام لها وعدم خلطها بمهن أخرى مطلقاً، وتشير معظم قصص هذا القاص وبعض من زملائه الآخرين إلى أهمية مهنة التعليم وقدسيتها في كل المراحل.

ولنا أن نعرف هنا جزءاً من سيرة هذا الكاتب المهم في تاريخ القصة العراقية إذ (ولد ذو النون أَيَّوب العبد الواحد في الموصل عام 1908 وتعلم بها في المدرسة الإسلامية وثانوية ثم أكمل دراسته الجامعية في دار المعلمين العالية في بغداد وتخرج فيها عام 1929 مدرسا للرياضيات والعلوم الطبيعية، وعمل مدرسا في المدارس الثانوية والمتوسطة ودار المعلمين ومديرا لبعض المدارس في عدد من مدن العراق.)، هذا مع أنه تفرغ فيما بعد للنشاط العام وكان اسما لامعا مهما على أكثر من صعيد في الحياة العراقية، وتكشف قصصه ورواياته في موضوعاتها ذات الطبيعة الاجتماعية الواقعية عن حس مرهف ووعي متقدم ورؤية شاملة.

تساعد كل هذه المعلومات على توفير قناعة بأن القاص ابن بيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو يحاول التعبير عنها بقصصه ويختار لهذه القصص عناوين واقعية تتفق مع رؤيته القصصية وتستجيب لها، وأتبع ذلك بمقدمة لمجموعته الأولى يوضح فيها هذا المنحى القصصي الذي يتوجب على القصاصين الالتزام به بقوله:

(في يقيني إن أعظم مهمة يجب على الأدباء والقصصين منهم على الأخص، أن يضطلعوا بها، هي إعطاء صورة فنية صادقة لما يقع تحت أبصارهم من حوادث عجيبة، وشخصيات غريبة، وأنظمة وقوانين حكومية أو شعبية، يدخل ضمن ذلك القوانين غير المكتوبة التي يخضع تحت تأثيرها المجتمع، وينفذها غير خائف عقابا أو راجيا ثوابا.)

ومن ثم جاءت قصص المجموعة بعناوين عديدة تندرج في موضوع المدرسة والتعليم والمدرس وما يترتب عليه من قضايا وإشكالات، ففي القصص الست التي احتوتها هذه المجموعة القصصية وهي: (البيك المثقف/بقلاوة/الدرجات النهائية/سيرة وسيرة/السيد عبيد في لهوه/قلب المعركة) كانت قضية التعليم التي يكون المكان القصصي فيها هو المدرسة، والشخصيات معلمين أو مدرسين بالدرجة الأساس، وما يتصل بذلك من أحداث وشخصيات أخرى تحوّل الفضاء الواقعي الحقيقي إلى فضاء قصصي بعناوين قصصية واقعية.

يمكن الحديث عن عنوان قصة (البيك المثقف) نموذجا وهي تطرح مشكلة الوساطة التي تفشت في الوسط التعليمي بصرف ىالنظر عن الكفاءة، وينطوي هذا العنوان على مفارقة بين الصفة (المثقف) والموصوف (البيك) في الدلالة الضمنية على وجود فرق بينهما، وهذا البيك المثقف في القصة هو مدير إحدى المدارس حيث يطلب منه الوزير ترشيح أربعة مدرسين لشغل وظائف مهمة، وحين يرشح مدرساً كفءاً عن طريق المصادفة يأتيه هاتف من الوزير بترشيح مدرس غير كفء لأسباب سياسية أو وظيفية، ويضطر هذا البيك المثقف إلى تلبية اقتراح الوزير وإلغاء ترشيحه للمدرس الكفء، تعبيراً عما تمر به وزارة المعارف آنذاك من محسوبية ومنسوبية لا تضع المدرس المناسب في المكان التربوي والمهني المناسب، على نحو يكون فيه عنوان القصة الواقعي (البيك المثقف) قدحاً لا مدحاً.

إن عنوان هذه القصة وعناوين القصص الأخرى لدى القاص ذو النون أيوب ينحو منحى واقعي لتوكيد واقعية القص، ولو نظرنا في الاستهلال الى قصة (البيك المثقف) لوجدنا أن شخصية القاص تتدخل في هذا المجال على نحو ما، فعتبة الاستهلال القصصي في هذه القصة تقدم خطابها إلى القارئ الذي يعدّ المستفيد الأول من القصة، حيث يكون القاص في مواجهة مع التفسير المتوقع الذي يمكن أن يصل إليه القارئ في تحديد مرجعية القصة، فالقاص يتوقع بل يحرّض على أن يتوجه القارئ نحو اعتبار هذه القصة واقعية وتمثل الحال الراهنة، على نحو يتوقع فيه القاص أن ذلك سيوقعه في مشاكل مع موظفي وزارة المعارف، وذلك لأنه يتناولهم بالنقد اللاذع في سلوكياتهم المهنية التي تخضع للضغوطات الإدارية والوظيفية والاجتماعية، فمن له وساطة يحصل على كل شيء حتى وإن لم يكن كفءاً، ومن ليس لديه وساطة لا يحصل على أي شيء مهما كان كفءاً ونشيطاً ومخلصاً:

(أحسب أن القارئ سيتردد في اعتبار هذه القصة من صنع الخيال، وأحسب أنه سيقول إنها تقع كل يوم، ولكني لا أريد منه أن يقول ذلك، فمجرد قوله هذا سيحملني مسؤولية لا طاقة لي بها، إذ سيثير عليّ حينذاك عدداً كبيراً من موظفي وزارة المعارف، ورؤساء دواوينها، من أولئك الذين لا يسرهم أن ترقص الحقائق أمام أبصارهم الزائغة)

إن العلاقة بين الواقع الحقيقي والفضاء القصصي في هذا المجال وثيقة جداً حتى تبدو وكأن أحدهما صورة للآخر، فالقاص حذر من أن تقرأ قصته هذه من موظفي وزارة المعارف ورؤساء دواوينها ويعتقدون أنه يستهدفهم ويكشف فسادهم، لذا هو يحاول في هذه الاستهلال القصصي قبل الدخول في الحدث القصصي أن يبعد هذه الشبهة عن نفسه، ويقول بأن قصته تتحدث عن زمن مضى وليس الزمن الحالي، وهذه ربما حيلة من حيل السرد يوحي بها القاص أن المقصود هو الحال الواقعي الراهن، وأن شخصية (البيك المثقف) في عنوان القصة هو شخص واقعي موجود في أكثر من مكان داخل وزارة المعارف العراقية، والتنبيه إلى مثل هذه الشخصيات وكشف فسادها جزء من مهمة القاص الاجتماعية والثقافية والسياسية، من أجل تصحيح المجتمع في مفصل مهم من مفاصله وهو التربية التي يعرف القاص بحكم عمله فيها لسنين طوال ما يحصل فيها من فساد وظلم وتجاوز للقوانين.

يختتم القاص مجموعته القصصية بعنوان (ختام) وضع تحته خطابا موجها إلى وزارة المعارف العراقية بالتحديد، وهو خطاب واقعي شديد الواقعية وبلغة واقعية صرف تنطوي على رسالة واضحة تبدو وكأنها لا علاقة لها بالقص كفن إبداعي تخييلي، بمعنى أن الواقعية دفعت القاص إلى وضع هذا الخطاب الختامي لتأكيد واقعية القصص وواقعية عناوينها، فالهدف والمقصاد واضح شديد الوضوح إذ يقول فيه:

(هكذا كانت حال وزارة المعارف العراقية منذ عدة سنوات أما الآن فيقال إنها عنوان الكمال والنظام، وما على غير المصدق إلا أن يسأل ويحقق)

وهذا الخطاب يحتمل أكثر من معنى، معنى إيجابي ومعنى سلبي في الوقت نفسه، وهو هنا يفصل بين حالين لهذه المؤسسة التربوية، حال الماضي الذي يقول إن قصصه تتحدث عنه، وحال الحاضر الذي يقول عنه (يقال إنه عنوان الكمال)، ولا شك في أن الفعل المبني للمجهول (يقال) يحتمل كثيرا من التأويلات، ثم يسند هذا القول بقول آخر هو (وما على غير المصدق إلا أن يسأل ويحقق) بما يحمله هذا القول من تحريض على ذلك، فهو يشجع الناس على التساؤل والتحقيق للوصول إلى حقيقة وزارة المعارف العراقية الآن، بعد أن كانت كثيرة الفساد فيما مضى كما تعبر عن ذلك جميع قصص المجموعة.

عرض مقالات: