اخر الاخبار

منذ غرائبيّة العنوان تضعنا مجموعة (في حنجرتي طائر منسي) للشاعرة (نورس حسين الجابري) الصادرة عن اتحاد الأدباء- بغداد، 2018 إزاء نصوص يتناسل فيها الوجع والإنكسار والخطاب الأنثوي المؤطر بالأسى والمتطلع إلى التّوق والتماهي مع الجمال والبحث عن فسحة للإنعتاق وإدانة القمع الذي يحاصر (الذات) الشعريّة وهي تكشف أن البوح وتداعيات الإنكسار تمثّل نوعاً من الاحتجاج والتحريض وأنّ سحر الجمال لا تخفيه الأحزان بل تجعل منه مكنوناً سريّاً لا يُنبئ بالانطفاء وتزداد ضراوة العشق وتحليقاته كلّما كان الجمال قيمة كامنة مسوّرة بحدوسات الترقب والتلصص على الصدأ والبرود والانكفاء الذي يصيب المحيط ويحوّل الذات الجامحة إلى بقايا رماد وتطلّع واجترارات للمرارة والخسارات لذا نجد في هذه النصوص أصداءً للتّوق وعشق الآخر والحياة على الرغم من الأسى والوجع الذي يتشرّب في النصوص ويسعى الخطاب الاحتجاجي الحزين إلى الثنائيات الضديّة، فالعالم في القوانين العلميّة والميثولوجيا وحتى الخطاب المقدّس والعشق بكل أشكاله يرتكز رؤاه على الثنائيات لتكون منحنيات الصراع واضحة المعالم وتصبح معادلة النّقيض للنقيض سرّ التواتر والاستئناف وجدل الأضداد هو الحياة والتّوهج الكوني فإنّ اختفاء الصراع والتحوّلات بين الثنائيات يحوّل العالم إلى بئر مهجورة وإلى أجواء مغرقة بالنسيان والإندثار.

على وفق هذه الرؤية التحليلية يمكن معاينة المهيمنات في نصوص المجموعة وهي تتأطر بالحزن الشفيف والاحتجاج على برود العالم وموت المواعيد وقبح العزلة وانحسار الجمال على الرغم من أن الشاعرة في لحظة تجلٍ تختفي بالأمل وتطرّز الأفق بالأحلام فهذا العالم المكتظ بالفراغ هو الألف الكامن المتفجر بصمت والذي يكشف جمال الحياة والتواصل بصيغة (الغياب) الذي يجسّد (الحضور) وجدليّة الخفاء والتجلي والتماهي والفراق... ونجد أنّها تقيم هذا الاستشراف المشهدي وهي تستعير دوماً الطبيعة: الشمس/ المطر/ الرياح/ لتقدم إحالة تشفيرية بأنّ كلّ سرٍّ يخفي نقيضه.

فكلّ فراق هو لقاء.. وكل افتقاد هو إعلان وكلّ شوق هو صورة للعشق.. وكلّ عزلة هي قصيدة توق إلى الاخر.. وكلّ ليل هو نبوءة للصباح.. وكل انتظار هو احتفاء قبل أوانه هكذا تتوالد الومضات في هذه النصوص وهي تحمل مشاعر وأحاسيس الأنثى وهي تسعى إلى تأشير الجمال والتماهي مع الصمت المنتج وهي تسعى إلى تثوير سكونيّة العالم بحرائق العشق.. وهي تصوّر دائماً العشق على شكل (احتراق) الذي ينبئ بصفاء وتوهّج العالم الاحتراق والتشفي لتوكيد لوعة التوق:

في المرة الأخيرة: / كان عليك أن تطلب حرقي

بدل تمزيقي... / حتّى أكتب لكَ

رسالة مشتعلة بدلاً من / رسالة متشظيّة... (ص9).

نرصد في نص (احتجاج) المعاني والصوّر والأفكار التي ترثي المكان والفراغ وصور الخواء والصور المؤطرة بالأسى تبعث رسائل للبحث عن عالم آخر يمثّل الوجه الآخر كمعادل صوري وتتجلى الثنائيات في النص كما في معظم النصوص فالضد مرتبط بالضدّ ومذكّراً بالنقيض:

بعد منتصف اللّيل / انتهيت من جميع اشيائي

ومسحت الغبار من رأسي / فرأيت كلّ من حولي نصوصاً مبعثرة

أبي، أمّي، قطتي / والشجرة المركونة في زاوية الحديقة

في المرة الثالثة:

جمعتُ جماجم الملائكة من السّكك/  وتناولت الحزن في حلقته الأخيرة

في مشهد طفلٍ غريق،  /   ولعنتُ البحرَ ألف مرّةٍ

تتمظهر شعرية الفراغ والوجع في الخطاب الأنثوي وفي عمق مخاضات الإنكفاء والإنكسار تتوالد النّصوص وتتأطر بمشهديّة (فانتازيّة) فالواقع بكلّ فراغه وصدئه يحرّض لتجاوز ما هو واقعي باتجاه نمط من اللغة والصورة والإيحاء الغرائبي وهذه هي ملامح الإغتراب الإنثوي ويتحوّل الليل من مساحة للبوح إلى صخب وقلق وإرهاق:

بعد منتصف اللّيل   /   حيث هدوء المكان

وصخب القلوب    /   اشمّ رائحة الإرهاق في جسدي..

أستمع لبكاء الأماكن المهجورة  /   ألمح تأوّه الوجع المريح

نتلمس تقديم صور مشوّهة وأشكال كابوسيّة تمتزج برؤية كابية للعالم ويتحوّل الخطاب إلى (فانتازيا) تؤشر اغتراب الأُنثى وقمعها في عزلة باردة تئن بالصمت:

هجرني كل شيء إلاّ اللّوم / استوطن مفاصلي

كالصراخ في العلب الفارغة / والكوابيس في قلق النوم..

تتكرر مفردة الموت في معظم النّصوص وكذلك الأكفّ المقطوعة.. وتبعثر الموجودات والصور المنكسرة والساعات العاطلة عن العمل حتى الأبواب فقدت وظيفتها ولم يبق سوى النفي خارج المشهد، كما في نص (منفى)، حيث نجد مرحلة متقدمة للإحتجاج وتصوير غرائبية الحياة القاحلة وفوضى الأشياء:

فوضى تعمّ هدوء أشيائي / أشيائي: شجرة لا تريد أن تنتزع الرّيح

ثيابها الصغيرة  /   طائر يلمع في نهاية السماء

وعلى الرغم من كابوسيّة النّصوص فقد وحدّتها الغرائبية كنوع من التوغّل في الاحتجاج وإدانة سكونية وفراغ العالم غير أنّ الشاعرة استطاعت على مستوى الصورة الشعريّة من القدرة على تركيب عناصر الصورة ورفدها بمشاهد من الحياة والطبيعة وجموح المخيّلة للتعبير عن التناقض والقبح وتلاشي الأشياء وموت المشهد وترى سكونيّة العالم وهو يحتضر:

ذلك المعلّق على وجه السماء  /   نجمة بعيدة

صار الآن ترابا   /   لم يترك برأسي غير زهرةٍ ذابلة

وتتكرر مفردة الفراق وألم المسافات في أكثر من نص كدلالة (سايكولوجية) على الوحدة والعزلة وتبدو الذات محاصرة خلف الجدران لا تجد سوى الأمنيات الذابلة و (منديل عتب) وليس سوى الدموع كعلامة على الحزن الذي يحاصر الذات:

هكذا علّمني الفراق  /   أرضعني الحزن مسافة ألم...

ونجد تراجيديا الفراغ والخواء تتناسل في أغلب النّصوص حتى يمكن تصنيف النصوص على أنّها قصيدة (مونولوجية): أي انثيال ذاتي وفرداني وهذا النّزوع له قصديّة في وعي الشاعر لتوكيد الذات المحاصرة والتي تكابد الاغتراب بكلّ أشكاله وتصبح الأماكن الضيّقة (شبابيك الغرفة) علامة على القمع (الجسدي) و (الروحي) الذي يحيط بكلّ المساحات ويصبح الحزن هو الطير الوحيد الذي يملأ المكان.. يمكن ملاحظة أن الذات الشعريّة تمثل نوعاً من الاعتقال داخل الأمكنة وتتحوّل كلّ المساحات إلى زنازن تخنق التّوق الداخلي وتضيق المسافات حتّى أنّها تصرخ وتطالب بمعجزة ثامنة، كما في هذا النّص:

أسكن كلّ الأشياء الضيّقة /   والأمور المنسيّة في هذا العالم حولي...

تطوف المدينة بأحزانها / وترقص المآذن على أوجاعي

لكنّ الشاعرة تضع القصيدة الأخيرة كنوع من (الفخ الصوري) وقصديّة الدلالة بدءاً من سيميائية العنوان في محاولة لإنقاذ (شعريّة الفراغ) من الخراب والنكوص عنوان النص (لست امرأة عابرة):

أخبرتك ذات مرّة   /  لست امرأة عابرة

تقف عند أرصفة الانتظار/ تحضر عيون القادمين بحثًا عنك..

عرض مقالات: