اخر الاخبار

“معنى على التل”؛ مجموعةٌ شعرية للشاعر صقر عليشي، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وقد سبقها تلال من الإبداع، ما بين: “قصائد مشرفة على التل، الأسرار، قليل من الوجد، أعالي الحنين، عناقيد الحكمة، الغزال.. وغيرها” من الجمال الذي يُطاردُ فيها عليشي المعاني المنتشلة من عمقِ الأفكار على مدارات الطبيعة والغيم والمتعة.. هنا الجمال بتسعِ أيقوناتٍ مبوبةٍ وموزعةٍ على فصول الكتاب، والتي تعجُّ باللامألوف وغير المتوقع والمدهش.

في العنوان: (معنى على التل)، العتبة النصية الأولى التي تفرض على المتلقي أن يتخطاها بكل انحناءة في تقديره للجمال في عقر دار عليشي؛ حيث المعنى حاضر بكل تجلياته، ويتجوّل بكلِّ رفعةٍ وبهاء فوق أعالي التلال، يتصيّده الشاعر من فناء اللغة، ومكدساً الصور في عالم من البلاغة والتورية، والاستعارات، وما قد تحمله من الرمز المضمر الموحي.. ومن جميل ما طالعنا من صور (لا تحجب عن سرّتها لغة)، (تبقى الأفكار قربي متأهبة).. وقد كان للسماء بعلوها السامي النصيب الأكبر في ديوان الشاعر، فالسماء، شيءٌ، علوي مرتبطٌ بالروحانيات كجمال معنوي بحت.. لكن عليشي ربطها بالجمال الحسي المادي بالغيم والسحاب والزرقة، ليشي لنا بعمق ارتباطه بالجمال، إذ نراه قد نذر نفسه للفرح والمتعة والليونة في تصالحٍ مع الذات بعيداً عن الصراع والتحولات الفكرية، وهو يحملُ دائماً في جعبة معجمه اللغوي: الفكر والألفاظ المتوالدة من رحم الطبيعة والجمال، بولادة طبيعية سلسة، وبمواليد تمتلئ بهاء بعيدة عن التشوهات والقروح.

الكلمةُ، السطرُ، بيتُ الشعرِ، الفكرةُ، المعنى، النشيد، اللغة.. ليست الألفاظ التي سنتوقف عندها في القصيدة، بل هي عند الشاعر القصيد وبيت القصيد، ولا تكاد تخلو عبارةٌ من ذكر هذه الألفاظ بكلَّ ماهيتها ليحيلها الشاعرُ إلى ما تقودهُ ذائقته التخييلية والوصفية، حاملاً إيانا إلى عوالم مذهلة،

“سترى هنا الأفكار

تلعبُ بالسما على سجيتها،

وتقضم كستنا..

سترى هنا الآفاق تنشر حيرة..

وترى السراب أقام خيمته

وراء المنحنى..

أمّا اليقين

فما تدلت خصيتان له هنا. “

وأمام عناوينه المستوحاة من بداهة الكلام، وماهيته السرمدية، يُبقينا الشاعرُ نسيرُ خلفَهُ، نتقصى الجمال في كامل مباغتته ونشوته، وفي نصه يُنزلُ الغيمُ من عليائه ليسيرا جنباً إلى جنب، فيتلوه قصيدة مكتوبة، ويقابلُه الغيمُ بحسنِ الضيافة، ويعيدُ صياغته قصيدةً أيضاً، فالمعنى عند الشاعر يتربعُ على التل غير آبهٍ، يحملُ ما يرتقُ به قصيدته كزائرٍ أعزلٍ إلا مما ملكتْ بناتُ خياله:

“جئتُ إلى الدنيا،

وغير هذه الأشعار،

ليس في يدي،

من المُعيبِ أنْ يمرِّ المرءُ،

ليسَ في يديه شيء..”

نصٌ بسيط من حيث مبناه وظاهر معناه، ولكن لو تقصينا عما تحملهُ زوادةُ الشاعر إلى الحياة لوجدناهُ بعيداً عن إخبارنا عن جيناته الموروثة، أو إيديولوجياته المكتسبة، وهو خالي الوفاض إلا من أشعارهِ، ويجدُ في حملها شرف الزيارات العابرة.. وفي فنِّ القول؛ قوّل الشاعرُ الأشياءَ المادية الجامدة؛ الشيء الكثير في محاولة واضحة لأنسنتها..

صقر عليشي.. وغوصه في اللامألوف: ما لا يتبادر على ذهن، فأن يقف شاعر بكل ما ألفناه من أحاسيس الشعراء أمام وصف (أبرةٍ) وشحنها بكمٍّ هائل من المشاعر، وتقوليها الشيءَ الكثير في توظيفٍ لغوي وجمالي باهر اللغة والمعنى معاً موظفاً قدرته على التحدي والابتكار وانتشال المعاني من عمق الجماد في مزاوجة للشيء، ونقيضه بين المادي والمعنوي.

“قالت الأبرة:

أنا لغزٌ غامضُ

ليس له حل

إذا في كومة القش دخلتُ،

أنا الواضح

لا يُخفى وضوحي إن وخزت..”

وفيما قاله السرُّ ما يرميك في بحرِ اللغة مصدوماً بجمال الفكرة، وعمق المعنى، وصرامة التشبيه، وما يحملهُ أحيانا من حدة.. فكيف للسرّ بعتمة غيابه الحسي، وعمقه، وتجوله في مسامات الغموض، أنْ يتسللَ الى المعنى مُحدثاً هذا الضجيج الصامت في محاولة لتشبيهه بشيءٍ مادي شديد الوضوح كالكلب.

“قال السرّ:

قدري أن أقبع في الأعماق،

فلا أعرف ما يحدث عند السطح..

وحين أحاول أن أرفع رأسي؛

أتلقى رفسة تأنيبٍ،

فألوبُ وأقعي كالكلب،

وألحس أطرافي.”.

كما برز عند الشاعر استخدامة للون والصوت والحركة محدثاً صدمة جمالية تتناسب مع كل حالة.. فاللون تجسد في المراعي الخضراء والسماء الزرقاء، وبياض الثلج (وافقتُ الثلج على ما فيه من ألقٍ وبياض) وبرزت الحركة بجمالية مع رسم البقرة والنمر..

وكذلك حين قال:

“حاول النسر أن

يجتاز تخوم الصورة،

لم يقدر

ولوى أجنحة

وتوقد في عينه الغضب..”

والصوت تجلى بكل صداه في قول الشاعر..

“لنأخذ حيطتنا

لو يصدر أي خوار

يهتز فضاء اللوحة إذّاك

ويجفل منه الوقواق

الواقف في أعلى شجر الحور.”

ثمّ يحدثكَ عن الخط المستقيم ليدخلك في متاهة التورية البلاغية، واستخدام لغة الترميز ببراعة مهندسٍ لا تخطئه مساطر القياس، ولا خطوط الطول والعرض..

“هو المستقيمُ الذي تعرفون،

التقينا معاً ليلةً

كان متجهاً نحو بعض الحقائق،

أيضاً أنا كان لي

ما أسير إليه،

شربنا النبيذَ، وراق المزاج

وساءلته عن أمانيه بعدُ ؟

فقال: قليل من الإعوجاج”.

وفي استخدام مميز لتقنية التناص يحيلنا الشاعر إلى محنة نرسيس، وما حملته الأسطورة من جدلية في محاولة لمعرفة مكتنزات النفس البشرية وخفاياها النرجسية.

“ياللغرابة

حين تمعنتُ في قطرات الندى؛

لم أجذ ما يشابه

نفسي.”

وفي رسالته المنمقة كعباءة مقصبة بخيوط الذهب لمحمود درويش، مترجلاً فيها فوق الغيم، يعيدُ تسوية وضع التاريخ، ويعقدُ آخر الصفقات مع الغياب والجمال، مع غزة، مع الحصار، مع أنكيدو أساطير الحكاية، مع أندلس الكناية، مع حمامة ضاع غصن زيتونها، وما عاد شيءٌ يرمز للسلام، مع إيديولوجية يحملها بسندسها للشعر ويومئ إليها إيماء.. ويبقي الشاعرُ يجوبُ ذرا المعاني، كصيادٍ ماهرٍ مهمته اقتناص الفكرة الوضاءة، وخلق المتعة والجمال وبياضه حتى لو كانت في كومة عتم، لينتهى مطاف (معنى على التل) بتلويحةِ وداعِ صديقٍ خصّه الشاعر بختام خطبة الجمال.. في أيقونة هدهد البحيرة، لنجد انفسنا أمام حالة من استنباط جمال الحزن بذكر معان ترفل بمناقب الفقيد الجميل في رفقة الصديق والريح والنهر والنوارس ومداعبة صدر الكنايات في الشارع العام حيث:

“يسير الفرات إلى حزنه

في البعيد؛

ليجمع شمل الحزين

تقيم اليمامة في الصمت

بعد قليل

يقول الفرات قصيدته

انتظروا

وعند نهاية هذا الملتقى يتوقف المعنى على التلال منتظرين حلول فجر القصائد وتراتيل المعاني والتحية.

عرض مقالات: