اخر الاخبار

امتلك الفنان عاصم عبد الامير طاقة خاصة متميزة وفريدة من نوعها، استثمرها لإعداد بناءات فنية تسيد فيها حضورات الغرائبي واللا معقول ويضفي عليها شكلاً خاصاً به وإن برزت الأشكال المجاورة لها، لكن ذلك لا يعني وجود نسخ في تجربته وانما هي متفردة والاصل منها هو الشكل والعودة للبدئيات المبكرة والاستعانة بالطبيعة والتقاط الغرائبي واشباعه بمبثوثات الرموز الصغيرة والنمطية ولكن المتابع لتجربة عاصم سيتمكن من ملاحقة عدد من الفنانين الذين فطنوا البدئية وحافظوا عليها وظلت متكررة والمغاير هو اللون الطاعن على الشكل ومثل هذه التجارب تبرز فيها عناصر ذات بدئيات مبكرة هي علامات الاتصال بوصفها آلية للحوار والتبادل وظلت هكذا حيّة، عاشت في تجربة عاصم كثيراً وتعامل معها بوصفها لغة، لان الرموز مكونات الخطاب والتفاهم وسيادة التعارف، لكنها تكشف عن حضورها بوصفها نوعاً من الرسم او التشكيل. لذا نجد بأن المفكر ارنست كاسيرر قد ركز مراراً على طاقة الرمز بوصفه وسيلة للتشارك بين الافراد والجماعات ويغتني بابتكارات جديدة لهم والرموز والتنقيط والخطوط هي اشبه بالتوقعات خاضعة لوعي الكائن. اما اللون وتنوعاته فأنه مثال للكتلة الطافية وقابعة بصمت لأنها غير عقلية. والتباين واضح بين الاشكال التي برع بها عاصم والمواد الشاغلة للفراغات بحيث تسيدت الموضوعية وتمركز الوعي واستبد العقل ناشطاً وقوياً. ولذا يمكن ان يلتقط الذات التي تجوهرت وهي تطوف وسط اللوحة، مبتكرة رموزها كمكونات للعمل الفني، لا بل اكثر من ذلك بحيث ترتضي القبول بسحريته التي تمثل الاصل الذي يومئ للعتبة البدئية ذات العلاقة القوية والمباشرة بين الطبيعة وشحناتها الرمزية وبين سيادة الكائن وانشغاله باليات التدوين / الرسم وهو كل ما يملأ الفراغ.

بالإمكان فحص وقراءة عديد من لوحات عاصم المحتشدة بجزيئات غائبة الصورة ومكتفية بما يشبه الشبكات المرسومة بخطوط سوداء تتضح وضوحاتها فوق شكل ميال البخار والاحالة الى الخريف وتمظهراته ولم تفلت من ذاكرة عاصم المتحولة الى خزان للمرئي، الصوري ويبتكر لها مربعات صغيرة ودوائر وكتل قريبة من الوجود، الصغيرة جداً او المدورة وكانه يريد منها ان تتحول الى شفرات تحيل الى بدئيات العمل البكري وطوفان سحرياته. وفي لوحتين متماثلتين انغمر الفنان بالتقاط غرائبية مماثلة لرسوم الجدان او جذوع الاشجار او اشكال الكهوف الصغيرة جداً. وما يلفت الانتباه حول هذه المصغرات هو ذهاب الفنان نحو الخلايا الصغيرة وكانه يريد ان يجعل منها نوايا لحياة جديدة. والموزعات وسط اللوحتين يوحيان لاماكن جزئية او متخيلات اكثر دنو للرموز لان عاصم معني كثيراً بالرموز التي تأخذه نحو بناءات وسط الطبيعة ويطوف بها ليبتكر اشياء ليست معروفة للجميع، لكن المماثلات المعيوشة تقرب بينهما، حتى يتحول الشيء الذي يلتقطه الفنان حاضراً اكثر قوة ومحفزاً للمتأمل الدنو نحو جزئيات الشيء التي تخلق نوعاً من الارباك عند المعاينة، الا ان الفنان هو الذي ابتكر وخلق ووحده يعرف العمل الفني كما قال هايدجر، لأنه يعني بشكل اخر هو الذي غرس العمل من اصل طبيعي ويتحول بالتتالي الى ان الفنان هو الاصل. ومن المؤكد كما قال هايدجر ان الفن بطريقة اخرى هو اصل الفنان واصل العمل الفني بوجه اخص وبالإمكان التوجه نحو الاختصار او التركيز للغاية ونكرر مقولة هايدجر حول اصل العمل الفني ويكون الفنان هو اصل العمل الفني مثلما يكون العمل الفني اصل الفنان.

النجاح الكبير المتحقق في لوحاته هيمن عليها التخيل، بحيث تبدّت وكأنها رسوم اطفال مع زحمة من كلام مرمز له عن الحياة من خلال علامات وفي احيان اخرى ما يشبه الخطوط العشوائية وبها انكسارات وانحرافات مع تساقط اجزاء منها، دائماً ما تكون الاطراف او امتداد يستجيب للضغط فتتضح التواءات تمثل كل هذه الحركات نوعاً من الكلام والتشكيل لغة عندما تخضع اللوحة للانتظام والانسجام. وبالطريقة التي يشتغل بها عبد الامير مع بروز العجائبيات واللا معقول ونفور التكونات المتلاحقة ببعضها واللون هو وحده يعطي ويكرم أحلام الفنان وأوهامه وأساطيرنا معاً لذا وجدت من خلال قراءة مبكرة على سطح شاشة بأن لوحة ازدحم التخيّل فيها وتجسدت عبر وحداتها اوهاماً تتشابك فيها الخطوط مع التواءات تنحرف بسببها الوحدة الجزئية للسطح التشكيلي، الذي ظل محافظاً على الروح الدلالية التي يلتقطها عاصم الذكي والخبير في لعبايته المانحة للقيم مع شفرات سحرية، عبر ايحاء لوني بوجود نظارتين او ما يشبه مدورات عجلة طفلية مع خطوط بيضاء اكدت كونها نتاجاً بدئياً ووسط كل من النظارتين علامة + مفروشة بانتظام وسط كل من العجلتين.

من مميزات عاصم التكتم والمحافظة على السرية واشتباكاتها عبر ادخال رمز يضعه في مكان وكأنه امتحان صعب، لان تأثيراته الدالة تقود اللوحة، ومثال ذلك وجود طائرة وتحتها طبقة سوداء.

انفتاح الفحص والتأويل يبث رسالة عن حياة مستهدفة بالدمار ومتروكاتها غيوم لا تتسيد على سطح اللوحة، بل يعطيها ايقونية التوقيع السريع. ولعاصم موقف آدمي جوهري وحيوي، لان الحياة ليست معطلة، الكائن يرى مع حاجته للنظارة، ويشاهد ما حصل وهو مستمر، لكن دلالات جمال الحياة متمركزة وسط بؤرة صغيرة للغاية، مماثلة للنقاط السوداء كبقايا خراب ودمار مريع. وتمظهر شكل آدمي مشوه كما اتضح، لكنه مكتف بالكامن المانح للوحة فضاء فوق الطائرة الحمراء واضفى عليها مساحة كبيرة قياسا للرموز الاخرى وماهرة عاصم وطاقته لحشد المعنى جعل من الطائرات الثلاث اكبر الاجزاء الرمزية، مثل السلالم، الشبابيك نقاط حمراء وواحدة مثلومة مع شباكين وتحتهما اثنا عشرة نقطة سوداء. ثلاث طائرات الاولى مع امتداد الخط العلوي للوحة والوسطى بيضاء والاخيرة حمراء داكنة، ولم يغير اللون من وظائفها الخرابية حاز عاصم بعضاً من مهارة فائق حسن في ضبط اللون الاحمر ودقة اختيار مكانه وسط اللوحة بحيث يجعل منه طاقة جاذبة وسط كثير من الالوان.

العودة للرموز في هذه اللوحة يحفز المتلقي لالتقاط ما تعنيه السلالم، الشبابيك... باعتبارها حضوراً ناشطاً للحياة على الرغم من سيادة الدمار.

اشرت ضمناً على كون السحر في لوحات عاصم ولا اظن بوجود امكانات لتفكيك السحريات، بل هي كليات داخل اللوحة مانحة عمقاً لها ومثلما قال ريجسي دور برية : على ان السحر الذي لا حدّ يجعل من انسان الصورة اكثر تفوقاً بشكل نهائي على انسان الكلمة لقد كانت “ الصورة السحرية “ ضرورة من ضرورات تطور العقل البدئي فهذا الكائن الذي وجد نفسه في عالم تقوده الطبيعة المتمردة وهو يعيش فيه بلا خبرة ولا معارف تمكنه من السيطرة عليه وتصريف اموره، فقد تصور ان بمقدوره تسخير الطبيعة لصالحه، ليستطيع من خلال ذلك تفادي النتائج السلبية التي تؤدي الى تلك التغييرات.

عرض مقالات: