اخر الاخبار

تميزت مدينة أوروك بوجود مبان متميزة ورائعة ولعبت دوراً بارزاً في النشاط الاقتصادي والاجتماعي. ففي وقت التنقيبات الالمانية في أوروك، تم القيام بعمليات حسابية من قبل المنقبين في مجمع “ المعبد الأبيض “ فوجدوا من الضروري لتشييده توظيف 150 عامل، كانوا قد عملوا بمعدل عشر ساعات في اليوم لمدة خمس سنوات تقريباً. ونحن نتحدث هنا عن أحد المباني فقط وليس أضخمها في المدينة. هذا يعني من جهة توافر امكانية انتاج غذاء كاف لإطعام عدد كبير من الاشخاص الذين يتم توظيفهم بشكل مباشر لإنتاج الطعام نفسه، كما كان يجب أن يكون هناك مكتب مركزي لديه القدرة على تخزين فائض المنتجات الغذائية “ أي ما تجاوز الحاجة لإطعام المنتجين “ وذلك لإعادة استخدامه من اجل ادارة اعداد ضخمة من العمال لتلبية الاحتياجات المشتركة “ من قبل الادارة المركزية على هذا النحو.( )

ما حصل في مدينة أوروك من ردود افعال قوية جداً وحازت صفة الانتفاضة في المدينة الاولى والكبرى والتي منحتها الآلهة اعظم الخصائص وميزتها بالقوة والتطور، هو الذي جعل الإله آنو مستجيباً لهم. لأسباب كثيرة، منها خوفاً من احتمالات التطور وازدياد الغضب وردود احتجاج ضد الملك. ولابد من الاشارة الى أن الثقافة المجتمعية في أوروك أخذت مساراً جديداً، غذته النخب التي اتسعت أنشطتها وتعددت فعالياتها بعد اختراع اللغة والذهاب نحو اللغة وهذا يعني حيازة الوعي واكتمال العقل.

تمثيل هذا النوع من التطور الحضاري وشيوع القوة، لابد من وجود سطوة شعبية تضع الملك جلجامش وجها لوجه أمام امكان احتمال الانهيار، لذا اضطر الإله آنو للاستجابة لمطلب الجماعات الشعبية والنخبوية. ويمثل هذا الموقف أول تصرف عقلاني لرب الارباب في العراق القديم وتحقق لهم ما ارادوه وذهبت الام الكبرى أورورو لخلق انكيدو.

تمكنت مدينة اوروك بقوى غير معروفة، لم تسبقها من قبل واحدة من المدن في جنوب العراق. وأعني بها الكتابة، سجلت عدداً من النصوص، كشفت عن تجمع متنوع وقوى مما أدى الى أن ترصين العمل والتحكم به من أجل الاحتفاظ بالذاكرة وتمظهرات نتاج ادارة الدولة التي عبرت عن اكتمال نظام السيطرة وادارة عناصر الحياة المدنية في أوروك وأشار د. فرانكو الى أن تجربة مدينة أوروك لم تكن فريدة من نوعها في المنطقة، على الرغم من عدم وجود أي أثر لنصوص مكتوبة في المنطقة، تعود لتلك الحقبة الزمنية.

ما يستحق التذكير ولفت الانتباه، أن ما حصل في أوروك من ردود أفعال قوية لم يكن استجابة لموقف آني وسريع، واستجاب لهم الاله آنو، لأن النظام السياسي صفته التسلط والهيمنة ومدعوم بما يمتلكه الاله أنليل، المسؤول عن السلطة التنفيذية. لذا أعتقد بأن الانتفاضة استغرقت زمناً لم يشر نص الملحمة لها، لكن الأمر الذي أصدره الإله آنو للأم الكبرى يشف عن رضا المقدس، وهذا الرضا له تأثيرات على الأرضي وحضورات المقدس. وهذا أحد الآليات الكبرى التي حفزت على تعزيز الذات في الحياة اليومية وتكريسها وتشجيعها لتحقيق استقطابات أوسع وأكبر.

دور الأنا وطاقة الذات، يمثلان استجابة للجماعات ونصراً اجتماعياً وسياسياً وحتى دينياً. لان أنو والام الكبرى ذهبا نحو قوة الجماعات، مع تبد للدور الذي ادته الانا التي تضم في تفاصيلها المتكتم عليها، الموقف الفلسفي الجبار. بمعنى الفرد / الكائن حاضر بقوة وهو يمتلك امكانات التفكير وسيادة العقل.

ان ملحمة جلجامش مكونة من نصوص سومرية، وهي من الاساطير المبكرة التي انتجتها اوروك في الالف الرابع ق. م. وعبرت عن الدور الحضاري في جنوب بلاد الرافدين وحصراً التميز في اوروك التي التقطت تصنيفاً قال عنه العالم فرانكو بأن تنوعات اوروك يعني امتلاكها للثقافي والسياسي والاقتصادي والايديولوجي وكان للكتابة قوة في اليومي وذاكرة السلطة، التي انشغلت بتوصيفات المدينة وضرورات رسم حدود الدولة وما يتبعها من مؤسسات اجتماعية معروفة بالعلاقات المتبادلة في الحياة اليومية وتحولات واضحة في الواقع الجديد والمبتكر. لقد رسمت مدينة اوروك ملمحاً مهماً وقوياً وبرزت تمظهرات لم تكن مألوفة في السابق بالمجال الاقتصادي والسياسي والايديولوجي ( وانتشرت في جنوب العراق وزحفت الى المناطق المجاورة جميعها حتى على بعد الاف الكيلومترات مثل ايران وسوريا وتركيا، حيث تجد حقائق ذات ابعاد مدينة يمكننا ان نرى فيها تأثيراً قوياً للعنصر الاوركي. اذ ان الثقافة الاوروكية اتحدت بالثقافة المحلية مما شكل نظاماً تم عن طريقة نقل بصمة بلاد الرافدين وفرضها باسم “ مستعمرات اوروك “ مثالاً صارخاً عن الوعي الذي عاشت به التجربة الحضرية في بلاد الرافدين او الحقيقة انه ربما لأول مرة في تاريخ البشرية.

ارادة بناء ( جسدي وفكري ) لواقع محمي ومعزول عن العالم المحيط ويعرف عن نفسه بانه مركز العالم. واستمر العالم فرانكو قائلاً : لا يبدو ان الكتابة قد تم نقلها خارج المدينة في هذه المرحلة الاولى من التوسع. مما يشير الى انها تعد وسيلة محلية لإدارة الدولة فقط، من النصف الاول من الالفية الثالثة ق. م لذا ستكون الكتابة المسمارية هي المحرك الرئيس للنشر الثقافي الذي عرفته بلاد الرافدين / ن. م/ ص73ــ74.

لعب المعبد دوراً كبيراً في اوروك بعد أن اتخذت صفة المدينة. واستطاعت استدعاء الجماعات واستقطابها لمركز المدينة، ومزاولة نشاطهم اليومي في المعبد الابيض ومنح المدينة صفة دينية عالية وازدادت فيها الطقوس والعقائد والسحريات، التي تحولت الى حضور سياسي وجوهري. ومثل هذه السلطة المعبدية منحت الانا / الذات / الذوات فرصاً عميقة جداً. بحيث اتخذ النشاط اليومي في اوروك طابعه الديني، ومنحها نوعاً من القداسة، حتى وفرت لها مساحة اوسع من الامكنة والبشريات، التي جعلت من المألوفات ظاهرة جديدة واشركتهم بالظواهر العامة الدينية، لأن الديني يتمتع بالقوة والنجاح مما مكنه توفير الاصطفافات جعلت من اوروك المدينة الاولى الوحيدة، وهي ايضا تعني البداية الجديدة كما قال العالم فرانكو واندمج ببدايات العصر السومري بوصفه حجر الزاوية وهي اللعبة او العملية المعنية باوروك التي حسمت الامور للقيادة والاستيلاء على الواقع المحيط الذي حققته المجتمعات البشرية في الهلال الخصيب على مدى الاف السنين، عن طريق محاولات فاشلة وتوافقات مفاجئة ونقل المهارات المكتسبة من منطقة الى اخرى. ولعبت الطبقة الحاكمة في اوروك دوراً بارزاً لتحديد الرؤية العامة للعالم والاشياء والزمن والتاريخ. كانت تتشكل جنباً الى جنب مع الكفاءات التقنية والثقافية في العالم / ن. م / فرانكو ص 75// 

ويضيء نص الملحمة اهمية المعبد / المكان المقدس، لأنه يضفي طابعاً له حضور قوي ولمزاولة الطقوس الدينية التي نجحت في استقطاب الافراد والجماعات في اوروك والمدن السومرية المجاورة، ارويدو لكش، واور. من هنا تتضح لنا نصيحة الصياد لابنه بالذهاب الى جلجامش :

يا بني ! يعيش في اوروك جلجامش

حرمني من صيد البر

ففتح ابوه فاه وخاطب الصياد ابنه قائلاً

يا بني ! يعيش في اوروك جلجامش

الذي لا مثيل له في البأس والقوة

وهو في شدة بأسه مثل عزم “ آنو “

فأذهب الى اوروك، وول وجهك شطرها

وانبئ جلجامش عن بأس هذا الرجل

وليعطيك مومساً تصحبها معك ايها الصياد دعها تسيطر عليه وتروضه / طه باقر / ملحمة جلجامش / ص87.

هذا النص بما ينطوي عليه من بلاغة وكشوف عن الدور الممنوح للإناث الموجودات في المعبد بوصفه مكاناً مقدساً، تزاول فيه الطقوس والعقائد وتمتحن به الانثى المنذورة جسدها مع الذكورة ومثل هذا الطقس شائع ومنتشر في المدن السومرية، واكدت ملحمة جلجامش على ان “ شمخت “ نجحت بتوظيف جسدها لإعادة انتاج جسد انكيدو، وتأهيله من اجل استعادة انسانيته وحاز صفته البشرية. هذا هو احد ابرز الملامح المميزة للديانة السومرية، التي جعلت من الاناث والمعبد مكاناً لاختبار الجسد وامتحان عناصره، حتى يتمكن من استحضار نظام الخصوبة واستمراره. وتمنح الحياة سيرورة وديمومة.

ان الطبيعة -كما قال فرانكو- عندما تتحرك من النجوم الى الحيوانات، من الريح الى الولادات الوحشية، فان ذلك ليس عرضياً ابداً ولكنه يستجيب لعلاقات سببية دقيقة تفرضها الالهة. والامر متروك للإنسان المتعلم لاكتشاف هذه العلاقة السببية من خلال قراءة العالم ككتاب هائل غير عادي، تكتب فيه الالهة ارادتها بظهور وتحويل كل ما ينتشر فوق وتحت السماء الذي يعتمد عليها بشكل مباشر.

كشفت السومرية كواتم وخفايا الحياة / العالم والطبيعة، هذا ما اتضح في ملحمة جلجامش عبر السائد فيها كاشفاً عن اليومي والمتكرر. فالعالم اسرار كثيرة، والطبيعة مخفيات متكررة وكأنها نظام له ملامح ضاغطة ومعرفة بما هو حاصل لذا :

(رأى   جلجامش ما هو سر، وكشف ما كان خفياً، واعاد قصص ما قبل الطوفان. سار في طريق بعيد متعباً، وفي النهاية نقش تعبه على رقم حجري.

يأتي ملك اوروك القديم الى هنا لتمثيل جهود المثقف السومري لفهم العالم. وقبل كل شيء يترك للأجيال القادمة لننتقل بانتظام ولنصف اولاً وقبل كل شيء الوثائق التي تسمح بإعادة بناء العالم الديني للسومريين / فرانكو / ن. م / ص177.

ذكر فرانكو بذكاء ومؤكداً على ما ذهب اليه السومريون لمعرفة العالم والطبيعة وتحدث كثيراً عن العالم، لكنه تجاهل تماماً العلاقة الثقافية مع الطبيعة التي تكرس في ثنائية الذكر والمؤنث، واشارت الفلسفة المعاصرة ــ باشلار ــ الى رمزية الانماط العليا وهي الماء / التراب / الشمس / الهواء وكلها تدخل بنشاط فاعل لتأكيد نظام الخصوبة وتفعيل الطاقة الحيوية وتحريك ديمومة الانبعاث وهذا ما اغفله فرانكو وفي حديث شخصي معه بحضور الباحث امير دوشي اكد ما حصل، لأنه لن يحوز حضوره الا من خلال الدين.

ــــــــــــــــــــ

* البروفيسور فرانكو اغوستينو/ السومريون/ ت: د. سناء السيوفي/ دار شهريار/ 2022/ ص72.

عرض مقالات: