اخر الاخبار

أصدر الروائي العراقي محمد حيّاوي روايتين مهمتين ومترادفتين، تضمنتا كلتاهما محاكاة لأحداث العراق المتدهورة في الفترة الواقعة بين انتفاضة 1991 حتى الغزو الأمريكي في العام 2003. هما رواية “خان الشّابندر” 2016، ورواية “بيت السودان” 2017 من دار الآداب البيروتية.

نحاول في هذه المقال رصد العوامل المشتركة والعناصر المتكاملة بين الروايتين، لأهميتهما في التوثيق السردي للمتغير السياسي والاجتماعي المهول الذي حدث في العراق.

ولعل أوّل ما يقف عنده القاريء، هو عنوان الروايتين، “خان الشابندر”، وهو مكان تاريخي معروف في بغداد القديمة بُني في عهد الدولة العباسية، تحول،  بعد الغزو الامريكي، إلى خرائب تحيطها منازل آيلة للسقوط، في منطقة “الحيدرخانة” المعروفة التي تفترض الرواية مجازًا، وقوعها ضمن نفوذ وسيطرة بعض الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون والمتصارعة من أجل بسط هيمنتها على المنطقة والناس الذين يعيشون فيها.

تدور أحداث الرواية حول مجموعة من الشخصيات التي تمثل إنموذجاً لشرائح المجمع العراقي المتدهور بسبب الحروب والأزمات المتتالية التي عصفت به. وفي هذا المكان تحديدًا، يوجد بيت “بيت أمّ صبيح” الذي يأوي مجموعة من الفتيات الهاربات من أسرهن بسبب الظروف القاسية التي مرَّتْ بهنّ، ليعملْنَ في مجال بيع المتعة، وثمة بطل الرواية “علي” الذي يزور البيت بدعوى عمل بحثاإجتماعي من نوع ما، فيتعرف إلى عالمهن العجيب وتأسره إحداهن “هند”، لتتوالى الأحداث الأسرة التي تشكل جسد الرواية وعودها الفقري.

أما في رواية “بيت السودان”، فثمة بيت يضم مجموعة من الفتيات ذوات البشرة السمراء،  يمتهنَّ الرقص والغناء، وثمة شاب يدعى “علّاوي” ذو بشرة بيضاء يعيش وسطهن. والبيت والأحداث التي تجري فيه في مجملها، تمثل حالة العراق قبل الغزو الامريكي، وأبان أحداث الانتفاضة الشعبية، قبل أن يحترق ويتحول الى رماد،  بعد الغزو الأمريكي وسيطة الجماعات الإسلامية على المدينة “الناصرية”.

وبالتركيز على طبيعة الشخصيات وتشابهها في الروايتين، نجد شخصية “أم صبيح” في رواية “خان الشّابندر”، وهي شخصية امرأة متوسطة العمر وقوية ومسيطرة تدير شؤون الفتيات في البيت، تقابلها شخصية “عجيبة” في رواية “بيت السودان”، وهي امرأة في العقد الخامس من عمرها، تأوي ايضاً مجموعة من الفتيات المشردات اللواتي التقطتهن من الشوارع أو من خلف المشافي، وبعضهن جئن بأنفسهن إليها كنماذج  للفتيات الهاربات من أهاليهن، أما بسبب ارغامهنَّ على الزواج من أشخاص طاعنين في السن مقابل المال، أو بسبب تعلقهن برجال عشقنهم وغدروا بهن. وهي شخصيات إنثوية جدلية تعكس طبيعة الانهيارات التي خلفها تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي شهدها العراق. وهناك في “بيت السودان” شخصية “ياقوت”، التي تشبه بدورها شخصية “هند” في خان الشّابندر”  وكل من الشخصيتين تعاني صراعًا مع الذات وكرهًا مفرطًا للرجال، بسبب ماضي كلا الشخصيتين. فشخصية “هند” المرأة الجميلة والمتعلمة والناضجة، تمتهن البغاء، بعد ان استغل الذكور جسدها بسبب الاحداث المتراكمة التي مرَّتْ بها البلاد والتي مرّتْ بها هي شخصيًا، مثل  فقدها لزوجها  وابنتها، فنجدها تنعت زبائن بيت “أمّ صبيح” بالحثالات والبهائم والأزبال التي يلفضها الشارع ويرميها عليهم، نلاحظ هنا ما ورد في حوراها مع “ضويَّة” في الصفحة رقم 24، عبارة (وهل تُسمّين هؤلاء ضيوفاً؟ كلّهم بهائم)، أو بالانتقام من جسدها، لاعتقادها بأنّه سبب المأساة التي حلت عليها، (أنا فقط أنتقم من جسدي بالنوم مع هؤلاء الحثالات،  لأنّه  سبب ليّ جميع تلك المآسي، وأوصلني إلى هذه الحال) رواية خان الشابندر ص 35 . وفي المقابل، في رواية “بيت السودان”، نجد شخصية “ياقوت”، القوية الجميلة، تربطها علاقة غامضة مع الفتى “علّاوي”، الأبيض الويحد في بيت السودان، ولم توضح الرواية سبب اعتزالها عالم الرجال وحرصها الشديد على الفتيات خوف أن يقعنّ في براثن الرذيلة مع الرجال، ولأن أسلوب الكاتب المميز في اعتماد الحوار التفصيلي لبنا شخصياته واكتسابها ملامحها وصفاتها، نرصد هنا ما جاء في الصفحة 25 من الرواية، عندما تبدت لها رغبة “علاوي” لجسدها اشتهائه لها، فتنعت الرجال بالذئاب بسبب غدرهم، الأمر الذي يوحي لنا بأنّه ربما كانت ضحية الرجال واستغلالهم لها، حين تقول: (ماذا فعلتُ بنفسي؟ لقد ربّيت ذئباً صغيراً في حجري، معتقدةً أنّه سينسى طباع الذئاب. يا لسذاجتي وغبائي).

وفي كلتا الروايتين، يسلط الكاتب الضوء على الشخصيات الهاربة من سلطة النظام وبطشه، ويتجسد ذلك إلى حد ما في شخصية  “سالم” في رواية  “خان الشّابندر“، الهارب من الخدمة العسكرية الذي يسكن في المناطق المهجورة، خشية أن يعثروا عليه، (تُظهره الرواية أنّه قد قُبض عليه وأُعدم رميا بالرصاص)، وكذلك شخصية “زيدان” الحوذي والد “عفاف”، الهارب بعد مشاركته في الانتفاضة الشعبية الذي يختفي ولا تعلم ابنته اين مصيره، وهل هو على قيد الحياة أم في السجون أم هارب خارج البلاد؟. وكلتا الشخصيتين تجسدان نماذج الاشخاص الرافضين لسلطة النظام انذاك.

وتقدّم لنا رواية “خان الشّابندر” شخصية “مجر” المتميزة والمحيرة الواقعة في منطقة عدم اليقين، في كونها شخصية حقيقية أو خيالية في الرواية، وهو رجل كبير في السن يسكن منطقة الحيدرخانة منذ زمن طويل ويعمل في تجارة العتيق ويتمتع بالحكمة والدراية، الذي تقابله شخصية “ضمد” في رواية “بيت السودان”، وهو الرجل الذي يعمل حارساً في موقع أور الاثري، الذي يسكن، في حال مجيئه إلى المدينة، في بيت السودان أيضًا، وتربطه علاقة أبوية غامضة مع “ياقوت” وبقية الفتيات، وهو يتمتع بالحنكة والدراية أيضًا، بينما تحيلنا شخصية “الملا جليل” في رواية “خان الشّابندر” إلى شخصية “سيِّد محسن” في رواية “بيت السودان”، وكلا الشخصيتين تحاول فرض هيمنتها بالسلاح واتستغل الأوضا المضطربة بحجة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وارغام الفتيات على ممارسة الجنس معهم من أجل توفير الامان لهنُّ:

 (ـ جماعة مٌلا جليل أحرقوا الدنيا الآن!

ـ وأنتم؟ أليس ثمّة خطر عليكم؟

ـ نحن؟ لا. لا تقلق. أمّ صبيح تدفع دائماً لجماعة مٌلا جليل. وأحياناً ترغم الفتيات على استقبال رجاله)،  رواية خان الشابندر الصفحة 108.

أما شخصية  “سيّد محسن” في رواية “بيت السودان”، فهو أحد زبائن البيت، وهو يعمل إمامًا ومؤذناً في لأحد الجوامع في النهار، بينما يأتي إلى بيت السودان سمر ليلًا، قبل أن تأخذ تلك الشخصية بالتنامي واتّساع النفوذ بعد العام 2003،  حتى تسيطر، مع أتباعها، على المدينة أو تكاد، وفي النهاية، تقدم تلك الشخصية المتمثلة بـ “سيِّد محسن” وجماعته، على أحراق بيت السودان، بحجة مخالفته الشريعة الاسلامية، بعد رفض إحدى الفتيات “نعيم” التي كان متعلقًا بها، الزواج منه. فجاء  الحدث مماثل  إلى ما قامت به جماعة “الملا جليل” في رواية “خان الشّابندر” عندما قتلت الفتيات في بيت “أمّ صبيح” من وقطعتْ رؤوسهن:

(قذيفة هاون ما هَدّمت الجدار. وأضحى البيت المجاور خربة من دون سقف. فتكوم الجميع بعضهم فوق بعض في غرفة صغير. عندما دخل المسلحون يحملون سكاكين ضخمة وبلطات. ثم أخذ المطر بالهطول فجأة، وراح يغسل بقايا الدم والسخام ويخلف عشرات السواقي السود الدقيقة. كانت الرؤوس المزروعة فوق الطوب مُبَلّلة بالكامل وخصلات الشعر المبلول ملتصقة على الوجوه).  رواية خان الشّابندر ص 70.

فمثلت هذه الشريحة من الشخصيات في كلتا  الروايتين أنموذجاً للجماعات  المسلحة التي سيطرت  على أوضاع العراق بعد العام 2003، متخذة من الدين الإسلامي  ذريعة والدين منها براء.

لقد تمثلت أحداث غزو الكويت والانتفاضة الشعبية عام 1991، ومن ثم أحداث ما بعد العام 2003. في كلتا الروايتين بشكا عميق ومؤثر، كما وظف الكاتب في الروايتين التناص التأريخي الذي جاء في رواية “بيت السودان” بوقائع وقصائد ورؤيا كاهنة أور الكبرى وشاعرتها العظيمة “إنخيدوانا”  وقراءتها  لمستقبل  أور، كما لو كانت قراءة لمستقبل العراق المعاصر والمتدهور نفسه:

(ولأنّ  الأسى المُرّ قد قدّر  على أرضي وشعبي. حتّى لو نشرت جناحي وطرت  فوقها مثل رخ، فإن أور ستدمّر  فوق أساساتها، أور ستفنى في مكانها، حتى لو أنّي صرختُ  ونحتٌ ). رواية بيت السودان الصفحة 102.

بينما طالعتنا في رواية “خان الشّابندر” شخصية “سيدوري” صاحبة الحانة المعروفة في ملحمة كلكامش، التي حملت أبعادًا رمزية وإحالات تاريخية فيما يتعلق بشخصية “نيفين” صديقة بطل الرواية والشاهدة الوحيدة على الأحداث الحقيقية التي جرت، والعنصر الفاصل بين الواقع والخيال في الرواية.

وكلا التناصين التاريخيين في كلتا الروايتين، يمثل عظمة إنسان بلاد الرافدين، وقدرته الفذّة على النهوض من جديد بعد كل محنة أو كارثة تحل ببلده. وهو أمر يُحسب للكاتب ومنجزه السردي الآسر والعميق والمحلي الصرف.

عرض مقالات: