اخر الاخبار

يقدم القاص والروائي حنون مجيد عشرة نصوص في (مسدس صغير) الصادرة عن دار أمل الجديدة – دمشق 2020، تتسم بخصائص وسمات مشتركة ومؤطرة بهاجس التّرميز والغرائبية وانتقائية الرصد والالتقاط في الثيمات والمضامين الإنسانية والتصوير في لحظة متوترة تكشف عن المسكوت عنه وكشف زوايا مهمة ومؤثرّة في واقع يعاني التناقض والتمزق واغتراب الإنسان عن محيطه وصراعه ضدّ القبح والانكسار وابطال القصص يعانون من تراكم تراجيدي فادح بسبب الحرب والزّيف وفقدان التناغم الداخلي بسبب انزياح ما هو خارجي باتجاه الانكسار.

القصص تثير الانتباه والتساؤل حول الهموم الوجودية والمصائر الحزينة التي تمثّل النهاية لأبطال عشقوا الحياة والحقيقة والحلم لكنّهم لم يجدوا غير الضياع والكوابيس وتمثل النزعة الغرائبية إحدى مهيمنات السرد القصصي بدءاً من غرابة العنوان (مسدس صغير) والمؤطر بروح الاستفزاز فالمسدس وسيلة للقتل والموت والأمر لا يتعلق بكبر أو صغر هذه الآلة التي ترمز للشر والتدمير وبهذا يُعدّ العنوان الكلي للمجموعة علامة سيميائية لآلة صارت جزءاً من حياة الإنسان المعاصر ورمزاً لما آلت إليه الحياة في ظل غياب المسميات والرموز الجمالية والرومانسية ونجد الترميز والغرابة في: (الحلية الدامية) و (بيفرلي) و (كروز الحزين) و (جندي من تلك الحرب) و (كارولينا) و (فعل طروب) و (مذبح الديك) و (طرفة ما) و (قصة شال)... كما وتحفل بمفردات توحي بالأسى ورثاء ما تبقّى فهناك (الدامية) و (الحزين) و (الحرب) و (مذبح).

النصوص تصوّر لحظات التمزق والإنكسار لكنّها تسعى على وفق تطلّع إنساني إلى رثاء الواقع ووصف غياب الحقيقة والنقاء وطغيان القبح والتلاشي نتيجة فقدان القيم الإنسانية وقلق الوجود الإنساني وضياع (الذات) الحقيقية وسط طوفان الزيف والضعف وغياب الجمال والتناغم.

ونجد أن بعض النصوص تصوّر بجمال أدائي عدميّة الواقع وتحوله إلى واقع متصحر يحاصر الإنسان وأحلامه ويغتال كل آماله وبما يتوج بعض النصوص وتحليقها باتجاه شعرية متعالية.. ورثاء شفيف يكشف عن روح الاحتجاج واستفزاز المتلقي وصولاً إلى الرفض والإدانة والتذكير ضمناً بضرورة التناغم والمسعى لقيم نبيلة تجعل الحياة أكثر نقاءً وتدفقاً. وتسعى هذه الدراسة الإجرائية لمعاينة كل نص والنظر في ثيمه واشتغالاته والكشف عن روح التناقض والتوتر بين البطل والمحيط المكتظ بالرماد والتكلس وأحزان الواقع.

اعتمد القاص لغة الاختزال والتكثيف والإلتقاط الذّكي (للحدث) واختيار الأبطال ومعظمهم أبطال يحملون وعياً استثنائياً وهذا ما يبرر ضمناً صدامهم مع واقع ينسف وجودهم وتوجهاتهم فكانت المفردة الشعريّة والوصف المركّز وسيلة لتحاشي التفاصيل الفائضة والاستطراد الذي يفسد الفكرة ويشوّه معالمها، ((أول مرة انظر إليه مأخوذاً بهذه الهيئة التي زادته جمالاً وكبرياءً، جسده الضعيف المصقول ببذلته الكحليّة، عيناه الصغيرتان المؤتلقتان مثل عينيّ طفلٍ، ساقة اليمنى على اليسرى، نظرتهُ الغاربة المترفعة، صمته الآخّاذ..))

(قصة الحلية الدامية/ ص14).

اما التسارع في الأداء الشعري والتتابع الوصفي وتقديم صورة تتسم بالغرابة لبطل القصة عن طريق سرد (الراوي) فنعده خاصيّة سردية.

وعلى مستوى المضامين وتجسيد الهموم الوجودية ركزت المجموعة على ما تعانيه المرأة من اغتراب وحصار ومواقف مأساوية وأزمات وأقدار تستهدف وجودها وأحلامها. كما في نصوصه: (قصة شال) و (فعل طروب) و (مذبح الديك).

ونجد المسافة التي تثير الغرابة بين بداية القصّة ونهايتها وبما يؤدي إلى كسر أفق توقع المتلقّي ومجيء النهاية بما لا يتوقع لكي يعمق القاص من (الصدمة) والغرابة وليعزز روح الإدانة لواقع يعاني من القلق العدمي واللاتوازن بفعل غياب النّسق الإنساني للقيم والتوجهات التي تجعل الحياة نزهة وجوديّة وليس كوابيس وأحزان ومواسم للفقدان والأسى والضيّاع.

الأبطال محاصرون بتراجيديا الواقع ويقدمون أنفسهم مثل قرابين تكشف عن لحظة مأزومة كما في قصة (كروزو والحزين) التي تعد أجمل النصوص وأنضجها وأعمقها، ((السكة تنقل أبداً إيقاع القطار، المحطّة كابية موحشة، حراسها كسالى نيام، لا شيء سوى المساء يهبط خفيفاً ناعماً مثل ذرات غبار ثم ثقيلاً.. ثقيلاً.. مثل كتل طين.. ووحيداً وحيدا، يضع رأسه المثقل بالدويّ والنّعاس على السكة الحديد، ينتظر قطاراً قد يعود أو قطاراً.... لا يعود....) (ص55).

هنا يجسد براعة الإشتغال وشعريّة اللغة وعمق المحتوى.. ويرسم لوحة لغربة الإنسان وعزلته والسأم الوجودي الذي يسكن أعماقه، والنص مؤطر بترميز شفيف ويجسّد تراجيديا (الإنتظار) لأمل لا يبدو أنه سيأتي ويمثّل القطار (دالاً) فاعلاً يعكس تجليات الأسى للمدلول المتمثل بالإنكسار إنكسار الإنتظار وغيب الحلم وهيمنة اللاّجدوى في واقع يتناسل بملل دون أفق جديد.

في قصة (الحلبة الدامية) نجد بانوراما للأسى حول سيرة ذلك الصّديق الذي تبدو حياته مجموعة من التناقضات والغرابة وهو يتطلع إلى واقع خاوٍ منكسر وذكريات الماضي الحزين، وفقدان الزوجة.. والإنشداد إلى الأمكنة وكأنّها تكشف أعماقه، وتكشف الفضاءات الأخرى. في النص توظيف للسيرة وصولاً إلى إدانة الواقع وغياب الحلم.

وفي قصة (بيفرلي) المرأة الأجنبيّة وعلاقتها بـ(بوابة عشتار)... والحضور والرحيل... وتوثيق القلق والتوق.. والقصّة تجسّد علاقة الشرف بالغرب وأزمة تلك العلاقة على مستوى الوجود الإنساني وانطوت على التشويق وتنوّع الأجواء والترقب وشاعرية الوصف، ((قالت: الفجر قبل أن تتحرر الشمس منه هناك سترى تجليّات الطلق الكوني العظيم يشير إليه من الحريّة الناهضة من أغلال الماء، هناك ترى كيف تشق الحريّة طريقها إلى مصيرها العلني المحتوم...)). (ص34).

وفي قصة (مسدس صغير) نجد روح التهكّم بين مجموعة عسكرية كبيرة وبين مسدس صغير تتوجّه وحدة قتالية لاقتحام بيت رجل يعمل بالصحافة بحثاً عن مسدس صغير، ونلحظ المقارنة الرمزيّة بين آلات القتل والرصاص وسلاح الرجل المكوّن من الكتب والصحف والمكتبة.. القصة تكتسب نسقاً ترميزياً للتناقض بين الفكر والسّلاح، ((توزع الجنود الذين فاجأونا بوجودهم على منافذ زقاقنا).

وفي (جندي من تلك الحرب) نجد الترميز وتراجيديا المصير إلى حد السخرية المرّة.. فالبطل وسط الصحراء والضياع واللّيل الموحش والخوف من المجهول.. لكنّه لم يعرف أن قرار وقف الحرب العبثية قد صدر.. قصّة تحمل صدمة وجودية وتكشف قبح الحرب. ((انهمر مفرّغاً خزين بندقيته على آخر عدو محتمل لجبهتين، هائماً على أرض حرام أو أرض حلال، مع أولى ساعات صدور قرار وقف اطلاق النار)). (ص85).

وفي قصة (كارولينا).. نجد أيضاً موقفاً آخر لفقدان الحلم ورحيل (كارولينا) والنص يعكس جانباً من رومانسية العلاقة بين الرجل والمرأة وسحر الشرق والغرب. اشتغال رومانسي على فكرة جميلة وبلغةٍ شعريّة شفافة.

وفي قصة (فعل طروب) نجد مأساوية الحدث وكأنّه قدر سوداوي يتسلل إلى حياة تبدو راسخة فالأم وهي تعانق حلمها اليومي وذهابها إلى السوق وتترك طفلتها (سعاد) وهي تقرر العودة سريعاً وحين تعود يصعقها المنظر الحزين بموت (سعاد) وقد لفظت أنفاسها في صندوق الثلج وتحولت إلى بقايا وجثّة هامدة.

أما قصة (مذبح الديك): فتوثّق عدميّة الواقع ووجودية الصدمة حين يحوّل الحلم إلى كابوس حقيقي.. والقصة تحمل مسحة الترميز والإيحاء أمام دهشة وأحزان الزوج والزوجة.

وفي قصة (طرفة ما) توغل في الماضي بوصفه قدراً ولقاء الرجل والمرأة قبل 30 عاماً في معرض الألبسة وطلبه ثوباً لزوجة ابنه فنادى على فتاة تشبهها.. وبعد ثلاثين عاماً تتذكر المرأة صاحب المتجر وتلتقيه بتوقٍ وحفاوة وتودعه في المطار..

وفي (قصة شال) نجد قصيدة تراجيديّة ولقطة سحريّة عميقة لامرأة تسحب طفلتها بعربة للأطفال على حافة نهر دجلة فتزل قدمها وتفقد توازنها ويسقط الشال من رأسها لكنّها تفضل الكشف عن شعرها وهو رمز ذاتها بغية الإمساك بطفلتها وسر روحها فيطلق الزوج مفردة التنوير الجميلة في ختام القصة ((ما أجملك وأنت بلا شال)). (ص146).

نصوص هذه المجموعة عميقة ومرّمزة وهي تكشف عن توق لوصف تراجيديا التناقض في واقع ملتبس وبلغة شفيفة وهي توثّق عدميّة اللحظة الدراميّة في كينونة مأزومة.. قصص ترثي وتدين القبح وصولاً للاحتجاج على غياب الإشراق والجمال والتناغم في الوجود الإنساني.

عرض مقالات: