اخر الاخبار

ليس ثمة غرابة ان ينتسب الشاعر الكبير مظفر النواب لغواية الرسم وهو صانع الصورة الكبرى في قصيدته ، تلك التي تجاوزت آفاق المحلية الى العالمية بجدارة كبيرة يدعمها موقف ثوري التزم به حتى نهاية حياته ،وتلك العلاقة المشيدة لقوانين الجمال بين الصورة الشعرية والمرسومة وتعالق صناعتمها عبر سلطة التخيل التي اتقنها النواب ببراعة فائقة ، وأن اخذه الشعر اخيرا وابعده عن الرسم ، الا انه سجل اسمه على مشهدية الرسم العراقي الحديث ، فضلا عن اسباب موضوعية عديدة في مقدمتها العائلة المناخ السائد وامدادات الثقافة الانسانية بكافة مشاربها والعائلة المثقفة التي نشأ داخلها واحتضنته بمحبة وتجلت موهبته المبكرة بجوارها ، تلك التي نهل منها وجماعته ورفاقه والمنطق المجموعي الذي تتسم به هذه التجمعات ، وفيما بعد الجماعات الفنية التي انتمى النواب اليها بقوة ودراية يتنقل بينها ليجد ضالته في النهاية ، بما يؤمن له التعبير عن هموم الناس والوطن .

  أن المواءمة بين الشعر والرسم جاءت منسجمة منذ البداية ، حيث ولعه بالرسم وملازمته مرسم الجامعة ، اذ تتلمذ على يد الفنان حافظ الدروبي المشرف على المرسم وقائد جماعة الانطباعيين ، وانتمى النواب الى الجماعة مبكرا وشارك في معارضها الثمانية وكان مخلصا للرسم مثل اخلاصه للشعر وتم التوقيع على بيانها الأول مع آخرين . وكانت هذه الوحدة بين الجنسين (الشعر والرسم) تقترن بمفاهيم الحداثة في التجربة الابداعية العراقية والعربية على السواء في ضوء التعبير الصادق عن معطيات الواقع وحوادثه واستثمار المزاوجة بين سلطتي الذات والموضوع المؤثرتين في التجربة الابداعية ، ليحول مخاضاته الذاتية الى هموم عامة تصل الجميع وتؤثر بهم حتى أضحى ايقونة ثقافية وثورية  ، ولم يبرح الرسم حتى في فترات اعتقاله ، فقد كانت له غرفة خاصة في سجن الحلة يمارس الرسم فيها ويكتب قصائده أيضا ، كما أنه اسس مرسما في المخيم الكشفي الحكومي في منطقة السعدية الذي جمع المفصولين السياسيين من وظائفهم. وعلى الرغم من انسجامه الكبير مع فناني الانطباعية العراقية ، الا أنه ابتعد عنهم من خلال طريقة التعبير وهجر الرسم الذي يقع في متناولات الطبيعة والافتتان بها ، حين اتم مدركات الوعي الطبقي وبدأت تتشكل في شخصيته فانتمى الى جماعة بغداد للفن الحديث ، معتقدا أنها تتواءم مع رؤاه الذاتية من خلال التعبير عن هموم الناس الفقراء والمسحوقين والأماكن التي تبتعد عن مراكز المدن ذات الرفاهية والجمال وقد رافق جيل من أعضاء الجماعة رسامون وشعراء وروائيون (جواد سليم ، شاكر حسن آل سعيد ، يوسف الصائغ ، فؤاد التكرلي) وغيرهم  .

    حاول النواب المسير بشكل متواز للارتقاء بالقصيدة واللوحة معا مثلما فعل جواد سليم في التوفيق بين (الرسم والنحت) ، وظل يرسم ويكتب ويترجم صور قصائده الفصيحة والشعبية الى صور مصدرها الخيال المجتلب من تقاطعات الواقع أحيانا أو التعبير الصادق عنه في أحيان أخرى ، ويرصد بعين الناقد كل الجزئيات التي أهملها الآخرون للتعبير عنها مستخدما تكنيكه الخاص على صعيد الرسم الملون أو الرسومات بالأسود والأبيض التي تنتمي في أغلبها  الى ما يدعى بالتخطيط ، بيد أن لوحته كانت تفارق المألوف في تشييدها في حالة التلوين او التخطيط مثلما فارقت قصيدته المألوف والشائع في الأوزان والبحور ليخلق بحره الشعري الخاص به على مدى سنوات ابداعه . وكان مفكرا بالاتجاهين محاولا مرات عديده توظيف النص اللفظي في لوحاته المرسومه سواء كان شعريا او مقولات لها دلالتها التعبيرية ، بما يدفع الخطاب البصري الى أمام وتضحو الكتابة معادلا موضوعيا ونسقا مساعدا على تكريس الفكرة التي يتقصدها ، لأن لوحته وقصيدته لها مغزاها القابع في مكامن الجدل الذي تخلقه الفكرة وأن المعطى الحسي قائم على تصير المضامين . فكانت التعبيرية واضحة في مجمل ما رسمه ، حيث تمظهر الأسى والموت ، ذلك الذي بدا جليا في لوحاته من خلال المكملات النصية اللسانية أو الصورة المرئية ، حيث دون بعض أشعاره الغزلية او السياسية التي تحمل قدرا من التهكم ، مثل ( يابعد خالك عليك الحمزة ابو حزامين تلعب ) أو القصائد التهكمية الفصيحة مثل (وتريات ليلية ) واحيانا ينزع الى المقولات التي تعبر عن القصد أو المسكوت عنه في التجربة السياسية أنذاك مثل ( ما الذي تربحه من لعبة الموت ) ، فضلا عن اتقانه لاستخدام الرمز وتشخيصه ايضا بطرائق الرسم الأكاديمي ، فتتجلى في أغلب لوحاته حمامات تطير في أعلى اللوحة على الرغم من الشخوص أو الترميزات البشرية التي يصطفيها بعناية وهي في اسفل اللوحة وبطريقة يشي فيها الى اهانة الذات الانسانية ، بيد أن طريق الثورة لا زال سالكا من أجل الارتقاء بتلك الذات المسحوقة لتحلق عاليا مثلما يحلق طائر الحمام . وعلى الرغم من انقطاع النواب عن الرسم ، الا أنه يظل ايقونة من ايقونات الحداثة الفنية بعدما حفر اسمه عميقا في ذاكرة الرسم والأجيال الفنية .

عرض مقالات: