اخر الاخبار

تقدم المجموعة القصصية (مدينة الأثل) للقاص عبد علي اليوسفي الصادرة عن دار الشؤون الثقافية- بغداد 2009 رؤية بانورامية لتجسيد اغتراب الذات وتعالقها مع الأمكنة وتشظيات هذا التشابك بين الذات المهمشة والمطاردة وبين تداعيات المكان وتصوير الخراب والقبح وكل أشكال الضياع والاستلاب والقمع ورصد الخسارات الفادحة التي تحملها الحروب ومأزومية الواقع والتشظي الذي يحيط الذات التي تجسد فكرة التمزق والنفي الداخلي والتشوه (السايكولوجي) و(الفسيولوجي) والبحث عن جوهر الذات والحرية والتشبث بالبقاء والأحلام من دون جدوى حين تتحول الأحلام إلى كوابيس ورماد ذهني لاسيما أنَّ أبطال القصص يمثلون الذات المثقفة المهمشة والمسحوقة تحت ركام الخراب، ولذا نجد الشخصيّات الرئيسة تحت ركام الخراب، وبلا أسماء ودالتها المركزية أنها مقموعة ومستلبة، وغالباً ما تكون مطاردة وهي تلجأ إلى الذاكرة والماضي والتاريخ كنوع من مقاومة القبح والنكوص بمختلف أشكاله.. شخصيات تحاول الهرب من قدرها لكنّها تتحول إلى قرابين وذوات تسحقها قوى التسلط وسرفات الحروب، والاستلاب الاجتماعي والسياسي.

القاص بإبداعه يكتب مدونات كابوسية تصوّر الإنسان المحاصر والمنفي والمقموع وهو يعانق الأمكنة التي تحولّت إلى أمكنة معادية، ولتعميق الإحساس بالاغتراب والفردية المحاصرة بوصفها صوت الإنسان الحقيقي فإنَّ جميع القصص ترتكز على السرد الذاتي وتوظيف ضمير المتكلم وهو يكشف عن تراجيديا الشخصيّات وتبدو في خضم ضياع ومكابدة (سيزيفية) وهي تحاور أعماقها وتلجأ إلى الأمكنة بوصفها ملاذاً من فداحة الواقع وشراسته، فنجد الأبطال محاصرين ومطاردين ومنفصلين عن حركة الواقع كنوع من الاحتجاج ضد الخراب الذي يحيطها وتبدو محنتها بشكل قاسٍ تهدد وجودها وكينونتها ولذا تبدو النصوص عبارة عن بوح سراني وإسقاطي لتأشير بؤر التأزم والتناقض وبواعث الموت وتحول الإنسان إلى مجرد كائن مستهدف من قبل قوى مجهولة ويتحول الواقع إلى قدر يلاحق الذات وهي تنزف الوجع والاحتجاج وتحاول إضاءة العالم عبر التمسك بصور الوعي والجمال ونبذ روح القطيع وتراكم رماد الحرب والقمع والمصادرة الخفية.

تبدو النزعة الإسقاطية لإدانة الواقع المأزوم جلية إذ يلجأ القاص إلى السرد الذهني والتجريدي والتمركز حول إشارات لشخصيات أدبية ورمزيات مكانية للكشف عن مسافة التوتر والإلغاء بين الذات الاستثنائية وبين عوالم الاستلاب بمختلف أنواعها ومصادرها، ونلحظ في كل نص هناك هيمنة خارجيّة تحاصر الذات المتشيئة ببؤر الضوء ومحاولة الإفلات من العتمة من دون جدوى.. على الرغم من هذا لم يقدّم لنا القاص أبطالاً مهزومين بقدر ما قدّم لنا شخصيّات مثقّفة وشفيفة تحولت إلى قرابين وبقايا ضحايا لكل أنواع التوحّش الخارجي والإقصائي وهذا التجريد في نسق السرد والأحداث والأمكنة والشخصيات تحول إلى لوحات رمزية- إسقاطية، للكشف عن التراكم السلبي وصور الارتكاس والصدأ الذي يؤطر الواقع بمختلف أبعاده.

في قصة (مدينة الأثل) نجد أنفسنا إزاء مكان معاد وقد تحوّل كل شيء إلى الشكل (الأثلي) ويكمن المعنى في أحادية اللون وهيمنة النزعة الانفرادية في كلّ زوايا المكان الذي يشبه معسكراً للأشغال الشاقة والقمع بمعناه (السيزيفي) بعدم الجدوى والضياع، ونجد الحس التجريبي لذكر اسم الكاتب وبشكل مقلوب، وتنعكس غرائبية المكان على غرائبية الأسماء.. أسماء تحمل الغرابة وتخلو من كلّ دلالة إنسانية وكأنّهم كائنات مستلبة “ ستعلن الأسماء الآن وحسب التصنيف المركزي لمدينة الأثل العظيمة: القلاعة 1-كطيسه بن ... لم يذكر اسم أبيه

2-مهوّس علكم . 3- استيرين مجول .. 4- عليج بن خربيط .. 5- عبد يلع .. صحت بأعلى صوتي نعم” (المجموعة: 8). القصّة تدين الاستبداد وهي تصوّر مكاناً تحوّل إلى معسكر لاستباحة وجود الآخرين ولا يوجد سوى أعمال السخرة والاستعباد .

مهيمنات النصوص تظهر ثيمة الحرب بكل وحشيتها ويتجلى وجودها في معظم النصوص بالتلميح والترميز والإشارة، فقصة (الخوذة) هي إدانة ترميزية للحرب وتحولها إلى كابوس في ذهن الأم وهي تمجّد أخاها الذي قضى في الحرب ولم يبق منه غير (الخوذة) وقد تحوّلت إلى علامة لبشاعة الموت والغياب، وهي بمثابة (الرأس) الذي يمثّل أهم مظاهر الإنسان ، ونجد نزعة أسطرة العلامة وتحوّلها إلى شاخص عياني للكشف عن قبح الحرب “الحرب انتهت وباع الجنود الملابس العسكرية والمعاطف والأنطقة، والبيريات والبساطيل، وامتلأت أسواق المدينة بالملابس الخاكية” (المجموعة: 14).

ونجد في قصّة (رصاصة همنغواي) إشارة إلى إدانة الاحتلال الأميريكي وكشف أدران الحرب من خلال محاورة افتراضية بين الذات وشخصيّة الروائي الأميركي (ارنست همنغواي)، إذ حفل النص بنسق إنساني يكشف بشاعة الحرب بكل قبحها وثمة إشارات إلى أعمال (همنغواي) والكثير من سيرته وتتجلى نزعة الإسقاط في هذا النص المتميز “مرّة نظرت إلى صفحة البحر، رأيت المستقبل يثرم بسرفة دبابتك تلك التي تجري في (لمن تقرع الأجراس) عجبت على زمن يُعلّب في أجواف الدبابات والمدافع وظروف الرصاص.. ضاعت (لمن تقرع الأجراس) في جزيرة (أم الرصاص)” (المجموعة: 17-18).

قصة (أم الميدان).. تحليق غرائبي وافتراضي لأنسنة المكان والتعمق في حفرياته ودلالاته التاريخية والفكرية وإيقاع الحياة فيه وكأنّ الميدان رجل له أم هو (أم الميدان)، “رفعت رأسي وفتحت عيني فرأيت من خلال الضباب المعتم امرأة حافية، مشققة القدمين يكاد السواد يفرش طبقة عليها بثوب وعباءة متهرئتين تبتعد عنّي (سائلة المارّة) كانت غارقة بالضباب وفجأة ارتفعت مع الضباب إلى أعلى... وتراءى كل شيء يرتفع وينزل محلّقاً.. الحافلات.. الموظفون الطالبات الطلاّب.. الجنود.. أسراب الطيور.. وعمال وسواق وباعة متجولون ومتسولون..” (المجموعة: 29).

وغالباً ما تنطوي نهايات النصوص على نهاية البطل سواء نهاية واقعية أم رمزية في قصّة (القطار الثاني) نلحظ تعالقاً بين الذات والمكان وامرأة تتذكر رجلاً استشهد في الحرب وهي تلتقي بأخيه الذي يشبهه ويمرّ القطار من دون أن ينتبها فيقرران البقاء في انتظار القطار الثاني.. القصّة باذخة في الالتقاط الشاعري والترميز الشفيف وتدين الحرب بطريقة غير تعبوية بعيداً عن الهتافات والتهريج، وأن ما بقي هو ضياع في محطة مهجورة “إلاّ أن القطار رحل بعد أن أطلق صفيراً مدويّاً أخيراً تناهت إلينا اهتزازات عرباته. وصرير عجلاته وكنت اتخيّل أن اثنين قد جلسا في المقعدين الفارغين ربّما رجل وامرأة قلت: فلنرحل في القطار الثاني. اطرقت في الأرض وكان وجهها وديعاً” (المجموعة: 34).

نلحظ تنويعاً تحليقياً مع نصب الحرية والتعالق مع المكان ومع الجندي الذي يتوسط نصب (جواد سليم) في قصّة معبّرة وترميزيّة موسومة بـ(حارس المدينة الباسل)، إذ تحوّل الجندي إلى علامة أزلية لبغداد وهو يتطلع إلى أحداث التاريخ وصولاً إلى الاحتلال البغيض ونجد أنسنة (التماثيل) وفق معالجة فنيّة شفيفة وعميقة، “ورحت أدوّن في مذكراتي أن لهذا الجندي مجداً عظيماً وله ماضٍ عريق من الانتصارات الباهرة، إن جنرالات المدينة والقادة الذي قادوا الحروب من بعدهِ لم يجرؤ أي منهم على الاعتراض عليه، ويخشون أن ينصب لهم رسم أو تمثال بجانبه” (المجموعة: 36-37).

                 قصة (كلب المزرعة) تمثل إدانة باذخة لتسلط الجنرال وكلبه واستدعاء البطل بشكل غامض وبأجواء كابوسية كافكوية تذكرنا باستدعاء البطل إلى محكمة لا يعرف شكلها أو دوافعها، فكلا البطلين مطارد من قوى تسلطية غامضة ويمثّل الكلب الشراسة واستلاب الآخرين بالرعب والترهيب، ونجد تعالقاً حوارياً مع شخصية شهرزاد في قصة (حكايتي إلى الجميلة شهرزاد) حيث التوظيف العميق للّغة الإيحاء والإشارات، “طارت النساء إلى السماء وعامت في البحار، رست لها أعشاشها في الغاب والسراديب وفي الأشواك وفي الصحارى وثمة من طارت أسراباً أسرابا للشجيرات البعيدة والمستنقعات فعمد الرجال إلى نصب الشباك والأفخاخ في الطرق والغابات” (المجموعة: 50).

هناك نص يعانق الرؤية الفانتازية في قصة (جولة السيد بورخس) فيه أسلوب استدعاء الشخصيّات من قبل الذات والتعالق الرمزي وتعميق صور الاستعارة، فالذات تستدعي (بورخس) إلى الواقع لمبادلته الانسحاب والحديث عن قصصه وأعماله التي تذكر في سياق القصّة، ويخشى البطل من الجماعات الظلامية والملثمين الذين في النهاية يتمكنون من اختطاف أو اعتقال بورخس “وهناك قبضات أخرى تاركة آثار الهشيم في زجاجة نافذتي ولم أعثر على عطر ينثال من افرشة سريري التي تمدد عليها (خورخي بورخس) ليلة البارحة والذي قادوه إلى جهة مجهولة بالتأكيد” (المجموعة: 65)، ونجد في هذا النص براعة في اللّغة ومقارنة سيرة الشاعر الأرجنتيني والواقع العراقي وفق فرضيّة تؤطرها (الفانتازيا).

أمّا قصة (شاحنة الأغنام) فإنّها تمثّل نصاً متميزاً وعميقاً في إشاراته ودلالاته حين يضطر البطل للهروب من الواقع وتجاوز الحدود في شاحنته لنقل الأغنام ليتحوّل إلى كائن لا يختلف عنها وتجسد القصة نزعة الهروب بحثاً عن الحرية والسلام وبأيّة وسيلة على الرغم من ما يلقاه الإنسان من وجع وخطورة المغامرة التي قد تؤدي إلى الموت لكن الإصرار على التحرر أقوى من كل نزعة، “ترى هل مصير الأغنام قدري؟ وصارت حياتي قريبة منها، حتى أنّني فقدت الرغبة بأكل لحم الغنم بعد الآن، ... أصرّ بأسناني مبتعداً وأنا أقاوم حالة التقيؤ التي تحفّز أحشائي.. أي حرية.. أحلم بها وأنا مشحون مع الأغنام”(المجموعة: 68).

المقطع الآتي يجسّد جانباً مؤثراً من تداعيات البطل الهارب والباحث ليس فقط عن حريته بل عن ذاته ووجوده، ويمكن الإشارة إلى طبيعة اللغة الباذخة، إذ أنَّ أغلب القصص تقدّم منولوجات وتداعيات داخلية تعكس حجم الوجع إزاء الخراب الزاحف مثل جراد متوحش، وثمة جانب آخر كان على قدر كبير من الإشارة والتعمّق في تصوير بشاعة الحرب حين يتعرض البطل إلى التشويه نتيجة تعرضه إلى نيران (الهبّة الخلفية) للقاذفة، “الهبّة الخلفية لتلك القاذفة الحقيرة، حوّلت وجهي إلى رغيف محروق بنتوءات وحفر.. لكنّه يحمل وسامة كانت.. استيقظت على الجلبة كانت السفينة تتجه لرصيف المحطّة البحرية وسط سفن عملاقة جاثمة هناك، والحقائب مرصوفة.. حقائب كبيرة بعجلات يدفعها العمال” (المجموعة: 74).

نلحظ تنويعاً رومانسياً واستذكاراً لسيرة الشاعر في قصّة (ظل الشاعر)  ومكابداته وعشقه وارتحالاته وذاكرته الموشومة بالألم واغترابه عن واقع مكتظ بالرماد والوجع والقصة عبارة عن انثيالات فيها الكثير من الصور الشعرية والإشارات وبلغة تقترب كثيراً من الأداء الشعري، “الأوراق الصغيرة تنفلت من يدي... تتطاير.. تتفتت.. أدرك أن الشاعر يعيش طفولة رائعة، يركض وراء طيور المقابر ويلهو مع (ملهي  الرعيان) ..  عارياً يسكن الشطوط  يعاشر أيام الصّيف ولمعان سيقان الفتيات وهروش الخضرة، يعيش انثياله البنفسجي، تتمحور في روحه ألوان النقوش والرسومات وألوان الفاكهة – كلّ شيء مختلف الصّور..  آه..  آه.. آه روائح المواسم..  حسرات وأفراح تنبجس منثالة في فضاء القلب.. كل الأطفال يتخيلون آباءهم شعراء وحكماء وأقوياء وفلاسفة.. هكذا يفسدون القصائد، اتخيل أبي شاعراً بل أكثر من ذلك تقول إنّه رجل آخر يحتفي به أبوك..  غير أني اتخيلني شاعراً اكتب عن امرأة” (المجموعة: 82).

مجموعة (مدينة الأثل) للقاص عبد علي اليوسفي احتوت قصصاً عميقة الدلالة وبلغة شعريّة شفيفة إذ يتماهى القاص مع أبطاله المحاصرين المنتظرين المغمورين في وحدة قاسية وهم يعانقون أقدارهم ببسالة أبطال التراجيديا وهم يوشمون العالم بقوتهم الداخلية وتوهج ذاكراتهم لا يلوّحون برايات الاستسلام النهائي بل يكابدون ويتشيئون حتى تنتصر الفكرة ولا يأبهون بأنّهم سيرحلون في طابور المهمشين والمسحوقين ولا ينكرون أنّهم قرابين الضوء

عرض مقالات: