اخر الاخبار

تقوم المجموعة القصصية الموسومة بـ”أصابع الأوجاع العراقية” للقاص حسب الله يحيى (منشورات دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 2017) على عنوان مركزي يتشظى على عناوين كثيرة، فمفردة “أصابع” هي المفردة المركزية حيث تهيمن هذه المفردة على كل عناوين القصص تقريباً، مما يدل على أهمية هذه المفردة وقيمتها في التعبير السردي.

يشير القاص في القصة الأولى “أصابعي التي لم تعد أصابع..” إلى أهمية هذه المفردة ودورها السردي في المجموعة بقوله:

(لا أعرف مصدر الحساسية المفرطة التي تكمن في ظاهر وباطن وحول وأمام وخلف أصابعي..

كل ما أعرفه أن هذه الأصابع التي تنتمي إليّ؛ أصابع مثيرة للجدل والاهتمام والبلاء في حياتي.. هذه الحياة التي تبدأ نهارها بأصابعي وتنتهي آخر الليل عند هواجس ومرارة ودفق أصابعي.

إنها تبكر في اليقظة، وتأرق حتى الذبالة الأخيرة من الليل..).

وهنا تتحول الأصابع بتكرارها اللافت كثيرا إلى ما يشبه الأسطورة “خلف أصابعي/هذه الأصابع/بأصابعي/دفق أصابعي/أصابعي وحدها/بين أصابعي/تحمل أصابعي”، وفي كل تكرار ترسّخ معنى جديداً من المعاني التي تدور حول الأصابع، فالأصابع تشكل على مستوى الجسم الإنساني والحيواني أهمية كبرى في عملها ووظيفتها، ولها كما في هذه القصة وظيفة رمزية حين تتحول إلى قضية كبيرة من قضايا الراوي القصصي، فهي مركز الحساسية الإنسانية التي يشعر بها ويتعامل معها من كل جانب، بالشكل الذي يعطيها قوة وحضور ومعنى كبير على أكثر من صعيد في قدرتها على إنجاز الأشياء المختلفة في الحياة.

في القصة الثانية “أصابع القتل والدفء!” تظهر أصابع الطفل الرضيع وأصابع أمه التي تبحث عنه وسط القتلى والتدمير الذي حصل بفعل تفجير إرهابيّ، فالأصابع هنا هي التي تحقق الأمان والدفء وتنقذ الطفل الرضيع من الموت:

(كان الجنون والهلع يأخذ بحركاتها وكلماتها ووجودها كله.. بحيث جعلنا رعبها نصاب نحن الذين كنا على قرب منها نصاب بالرعب، ونتجه نحو كل الاتجاهات، نبحث عن الرضيع حتى نعيده إلى اللهفة القاتلة التي وجدنا فيها أمه وهي تصرخ:

-يا ناس كانت أصابعه تحضنني، كانت أصابعي ممسكة به، كنت أشدّه الى صدري.)

وهذا المقطع مليء بالعاطفة الأمومية التي تضامن معها كل من حولها من الناس وسط مشاهد الخراب والدمار والموت، فأصابع الأم وأصابع الطفل هنا رمز للحياة التي يجب أن تبدأ دائما على الرغم من كل صور الموت والدمار الإرهابية، ويريد العنوان أن يقول إن الأصابع يمكن أن تكون معدّة للقتل مثل أصابع القاتل الإرهابي، أو أصابع معدّة للحياة مثل أصابع الأم والطفل وهي تنقذ الطفولة رمز الحياة من أصابع الإرهاب.

تعبر قصة “أصابع الشهداء في كل مكان” من عنوانها عن الصفة الرمزية لأصابع الشهداء الذين يضحّون بحياتهم من أجل الوطن، وتظهر مفردة الأصابع في أكثر من مكان في القصة لكن الظهور الرمزي الأبرز هو في هذا المشهد الحواري بين شخصية “برهان” الباحث عن أبيه الشهيد وشخصية الراوي القصصي:

(-لن نجده ولن نجد سواه.. والدك وكل زملائه سنجدهم يوما ما أشجار نخيل تثمر رطبا.. ستتحول أصابع كل واحد منهم إلى أشجار ترتوي بالمطر.. ثم تنمو وتملأ المكان.. الذي سيتحول إلى غابات نخيل.)

فالصورة الرمزية هنا تحوّل أصابع الشهداء إلى حياة جديدة عالية بالثمر، وقد شبه هذه الأصابع بالنخيل المثمر لرفع شأنها وأهميتها في القصة لأنّ النخلة هي رمز تاريخي وديني كبير عند كثير من الناس، ليأخذ المعنى الرمزي هنا للأصابع صورة عميقة تتحول إلى نوع من الأسطورة التي تجعل من الأصابع أيقونة سردية.

ويتضح من عنوان قصة “أصابع سبايكر” أنها تحكي عن الجريمة البشعة التي نفّذها الإرهابيون بحق شباب العراق فترة هجوم داعش الإرهابي، وهي أصابع تشهد على هذه الجريمة النكراء مدى التاريخ، أما عنوان قصة “رغيف بدفء الأصابع” فهو يشير إلى أصابع الأم وهي تقدّم الرغيف الساخن لابنها، على الرغم من أن هذا الابن قد عرف فيما بعد أن هذا الخبز كان اسمه (خبز التموين) أو (خبز الإعاشة)، وهو المصنوع من أردأ أنواع الطحين وسمّاه الراوي بالطحين الترابي المخلوط بكل الشوائب، وتؤرخ هذه القصة عن طريق الأصابع (أصابع الطفل الباكي وهي تلتقط هذا الخبز الملوّث) لمرحلة تاريخية مهمة مرّ بها الشعب العراقي.

تبقى الأصابع حاضرة في قصص المجموعة الأخرى مثل قصة “أصابع حارس المتحف” وقصة “أصابعي في سور نينوى”، أما قصة “أصابع بهنام أبو الصوف” فتشير الى شخصية عالم آثار عراقي شهير “أكمل دراسته العليا في جامعة كمبردج بإنكلترا وحصل على درجة الدكتوراة في الآثار ونواة الحضارة وعلم الإنسان في خريف 1966. عمل لسنوات عديدة في التنقيب عن الآثار في عدد من مواقع العراق الأثرية في وسط وشمال العراق، وكان مشرفا علميا على تنقيبات إنقاذية واسعة في حوضي سدي حمرين (في محافظة ديالى (وأسكي الموصل على نهر دجلة في أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي. كشف عن حضارة جديدة من مطلع العصر الحجري الحديث في وسط العراق أواسط الستينات والتي ألقت الكثير من الضوء على معلوماتنا لتلك الفترة الموغلة في القدم. حاضر لسنوات عديدة في مادة جذور الحضارة والآثار والتاريخ في عدد من جامعات العراق ومعهد التاريخ العربي والتراث العلمي)، بمعنى أن أصابعه ذات طبيعة علمية اكتشافية مهمة كثيراً حيث تبدأ القصة على لسان الراوي بوصف أصابعه بهذه الصورة:

(أعرف أصابعه جيداً، أعرفها وأجزم أن بمقدوري تمييزها عن جميع الأصابع التي أعرفها ولا أعرفها)

وهذا يعني أن الراوي القصصي هنا يدرك أهمية هذه الأصابع القادرة على كشف المخبوء في الأرض بحكم خبرتها وعلمها، لذا يجد فيها الراوي أصابع من نوع خاص لأن الأصابع تستجيب لعقل صاحبها وتنفذ أوامره، فحين تكون هذه الأصابع لشخصية آثارية لها باع طويل في علم الآثار والاكتشافات الآثارية فهي قادرة على الاكتشاف، عندها تكون أصابع نوعية تحتل عنوان القصة المركزي باسم صاحبها.

وينطبق هذا الكلام نفسه على عنوان قصة “أصابع الست باسمة” حيث ترتبط الأصابع بشخصية الست باسمة، وكذلك على عنوان قصة “أصابع خوبي الستة” وهي تتحدث عن دور الإصبع السادس عن الخمسة أصابع الطبيعية، أما قصة “أصابعي الخشنة” فتتحدث عن الراوي القصصي الذاتي وهو يصف أصابعه بالخشنة تمييزاً لها عن الأصابع الناعمة، ولا شك في أن صفة الخشونة في الأصابع تدل على العمل والشقاء والتعب وخوض غمار الحياة في أصعب مراحلها.

القصة الموسومة “أنفاس أصابع” تدل مباشرة على ما يمكن تسميته أنسنة الأصابع، إذ إن وصف الأصابع بأن لها أنفاساً فهذا يعني أن الراوي منحها صفة إنسانية جعلها قادرة على التنفس، وهو ما يسمّى الأنسنة أو التشخيص، وهي صفة إنسانية على الأغلب تعود على ارتباط الأصابع الوثيق بالشخصية الإنسانية في عموم تكوينها، حيث يكون الإصبع هو الراوي الذي يروي الحدث القصصي:

(أنا إصبع تائه.. بنصر لا مكان له في العالمين السفلي والعلوي.

إصبع ضلّ طريقه.. فتاه وأخذ منه التيه كل مأخذ.

إصبع.. انفصل تماما عن زملائه: الخنصر والوسطى والسبابة والإبهام.)

إذ يتحول هذا الإصبع البنصر إلى شخصية قصصية تروي مأساتها عن طريق الحدث القصصي، بانفصاله عن إخوته بقية الأصابع ولم يعد له قدرة على الفعل والإنتاج والعمل، أصبح عاجزاً وغير قادر على ممارسة أعماله الطبيعية عندما كان متحداً مع زملائه من الأصابع.

تتنوع صور الأصابع في عناوين قصص المجموعة تنوعا كبيرا يدل على خبرة قصصية كبيرة في صوغ العنوان القصصي لدى القاص، فالقصة التي عنوانها “كفن لها ولأصابعي” تنتمي فيها الأصابع للراوي القصصي وتتوازى مع الشخصية الكامنة في تعبير “لها” وهي حتما شخصية امرأة، تتساوى مع أصابع الراوي في وجود “كفن” لكليهما، وفي عنوان قصة “فجر أصابعها” يتحول انتماء الأصابع إلى شخصية المرأة الكامنة في الضمير المضاف إلى الأصابع “أصابعها”، والإشارة واضحة إليها وإلى أصابعها هنا، وفي عنوان قصة “أصابع بلون الأمنيات” يأتي دال الأصابع بصيغة جمع مشبه “بلون الأمنيات” وهو تشبيه مجازي لأن الأمنيات شيء معنوي ويكون بلا لون، لكن تلوينه بهذا الشكل يدل على أن الأصابع المقصودة في عنوان القصة ذات طابع رومانسي.

أما عناوين القصص الأخرى تأتي بصيغة المضاف والمضاف إليه وتكون مفردة الأصابع بصيغة الجمع هي المضاف فقد تكررت بعد القصص السابقة في ثلاث قصص هي “أصابع النساء” و “أصابع القط” و “أصابع اللذة”، وفي كل قصة من هذه القصص يأتي المعطوف عليه بصيغة لغوية معينة تكشف عن معنى الأصابع، ففي قصة “أصابع النساء” تكون دلالة الأصابع رقيقة وشفافة ات طبيعة أنثوية، وفي قصة “أصابع القط” تكون دلالة الأصابع مخيفة وقادرة على الخدش والأذى، وفي قصة “أصابع اللذة” تكون دلالة الأصابع فيما تكتسبه من لذائذ على صعيد الأكل وغيره من اللذائذ الأخرى المعروفة.

يأتي عنوان قصة “أصابع الحبر السماوي” كي يضيف إلى حالة العناوين الثلاثة السابقة أن المضاف إليه يكون موصوفاً “الحبر السماوي”، وبذلك تكون الأصابع قد حققت في العنوان دلالة أكبر وأوسع من خلال المضاف إليه وصفته أيضاً.

العنوان الأخير في مسيرة عناوين الأصابع في هذه المجموعة هو عنوان قصة “أصابعي وأصابع الديك”، حيث تتوازى أصابع الراوي مع أصابع الديك وتكون في نوع من المواجهة بواسطة حرف العطف “الواو”، فالقصة التي يرويها الراوي القصصي الذاتي تحكي قصته مع دجاجاته الخمس وديكه حتى ينتهي إلى محاولة ذبح الديك في نهاية المطاف، لتأتي خاتمة القصة على الشكل الآتي الذي يوضح العلاقة بين أصابع الراوي وأصابع الديك:

(اتخذت قراري وأعددت سكيني لكنني في نهاية الأمر سألت نفسي:

-يا رجل هل تريد لأصابع شيخوختك، أن تماثل أصابع شباب الديك، كن منصفا يا رجل.. تنبه إلى أنك لم تصب بالخرف بعد.. وذاكرتك ما زالت يقظة.

في تلك اللحظة أطلقت سراح الديك من قبضتي وأعدته إلى جنة كان يعيشها مع دجاجاته الخمس.

أحسست براحة وابتسمت واطمأن قلبي إلى أنني ما زلت أملك أصابع لها القدرة على أن تعمل بإرادتي لا بإرادة سواي..)

تظهر هنا الدلالات التي تنعكس من خلال العلاقة بين أصابع شخصية الراوي وأصابع الديك والنهاية التي وصلت إليها هذه العلاقة، بما يعطي للأصابع معاني جديدة لا يمكن أن تتوقف بتوقف قصص الأصابع عند هذا الحد.

ضمت هذه القصص بعد نهاية قصص الأصابع عددا من القصص الأخرى وضعها القاص تحت عنوان (الملحق)، ضمت خمس قصص هي: (الخسفة/رحيل أفلاطون/رقة العيون الوحشية/قطار الموت/براءة دمي)، ولا علاقة لهذه القصص بموضوع الأصابع كما هو واضح وقد جاءت خارج فضاء العنوان القصصي، وربما كان من الأفضل الاكتفاء بقصص الأصابع كي يكون العنوان القصصي المركزي ممثلا للقصص خير تمثيل، لكنه بإضافة هذه القصص قلل بعض الشيء من هذه المركزية على الرغم من أنه وضعها تحت عنوان (الملحق)، الذي يعني أنه لا صلة لهذه القصص بالعنوان المركزي الخاص بموضوع الأصابع.

عرض مقالات: