اخر الاخبار

تنتمي رواية ( الشهر الثالث عشر) للروائي أحمد سعداوي الصادرة عن منشورات نابو للنشر والتوزيع في بغداد لعام 2022 إلى سرديات ما بعد التغيير التي لامست الواقع العراقي بفعل تحولات سردية حاضرة في الشكل والمضون لمعالم السرد، وبهذا تثير الرواية الكثير من الأسئلة التي تمسّ الوطن عبر فصولها الستة عشر” روح لائبة، الاختباء في تلّ الإمجعْبزة، بداية الطريق، جوعان وعريان، صلاة، ثورة نسرين، صورة القويّ، اعترافات أمام رجل غامض، وحوش صغيرة، وقت الانتقام، مرافعة الإنسان العادي، ناهدة، أرواح وشياطين، مكالمة مع الله، المواجهة، وداعٌ أخير من طائر الهدهد “ إذ تتزامن أَحداثها مع جملة من اللقطات المشهدية المشابهة لثورة تشرين التي أعلنها الأَحرار ومحبو الوطن في بغداد “ لا يعرف متى بدأ الأمر يتعلّق بالإعداد لتظاهرات طلابية حاشدة في بغداد دعماً للديمقراطية وحقوق الإنسان. كان الاسم السرّي لها هو “ الشهر الثالث عشر “ ص52.

في هذه الرواية نجد أَن هناك علاقة عضوية وحضورية واضحة بين الذات العراقية المنتفضة وهيمنة السلطة الثائرة سواء كانت معلنةً أم مضمرةً عبر تلك الأنساق الثقافية التي تترجم مجموعة من الأحداث التي سجلتها مشاهد الرواية “ مطاردة، تعذيب وترهيب، السجن، اعتقال، الضرب بالعصي، تمثيل بالجثث “ وأَسندتها إلى الشخوص “ عايد، شاكر، نسرين، أستاذ جليل، إياد “ فمن خلال ثيمة الانتفاضة – الثورة - تجاه السلطة استطاع الروائي أن يبني أحداث روايته من الواقع التأريخي في متخيل سردي مقارنة بما نحن عليه اليوم من مأساة، وبهذا تندرج رواية “ الشهر الثالث عشر “ ضمن ما يمكننا تسميتهُ برواية “ الحدث “ ؛ لأَن الرواية تحاول أَن تدين مرحلة مأزومة للعراق المعاصر، فضلاً عن التسجيل والتوثيق لوجع العراقي والويلات جرَّاء هيمنة الطبقة السياسية، لذلك تركت الرواية دائرة فضاء السرد مفتوحةً أَمام الشخصيات ولاسيَّما شخصيتي “ عايد ونسرين “ بشكل خاص للتعبير عن واقعهما والتحديات التي تواجهه الوطن مستفيدة من تقنية تعدد الاصوات الموزعة على فصول الرواية وبمجموعها تتشكل الرواية.

ومن هنا جاء الانتماء إلى الوطن بدلالة الانتفاضة أو الثورة في معالم هذه الرواية لدى هاتين الشخصيتين أَكثر من غيرهما، احدهما المركز الذكوري “ عايد “ الذي مارس دور الاختفاء فيما بعد بفعل هيمنة والده الذي منعه من المشاركة والانضمام خوفاً على مصالحه الشخصية “ لكني لا أرى من المناسب أن تجازف بحياتك مع هؤلاء الشباب. أنت مختلف عنهم. أنت ابن من يملك نصف أراضي هذه الناحية. أنت لا تحتاج إلى تغيير، بل أن تحافظ على مصالحك الحالية.

– ولكننا كشباب لدينا مصلحة أكبر تجمعنا مع بعضنا، هي مصلحة الوطن “ ص38- 39.

في هذا المشهد يبدو واضحاً نسق الانتماء من خلال فاعلية الحوار بين “ عايد “ وأبيه الذي يمنعه من الانضمام إلى مجموعته والمشاركة في انتفاضة “ الشهر الثالث عشر “، وغير بعيد عن هذا حوراه مع صاحب البدالة “ أَبو صلاح “: ابني.. مادام أنت طلبت نصيحة منّي.. فلا تؤاخذني بالكلام.. أنت من عائلة ميسورة وأبوك عنده علاقات بناس بالحكومة. أنت ما تحتاج كل هاي الأمور... عمّي.. هذا موضوع مختلف عن الأشياء الشخصية اللي حكينا بيها. هذا موضوع يخص الوطن والبلد والشعب “ ص76.

 أما الآخر فهو المركز الأنثوي الثائر المتمثل بشخصية “ نسرين “ والتي تمثل أَكثر فاعلية وديناميكية في اشتعال فتيل الثورة قياساً بالمركز الذكوري عبر مواقفها التشجيعية لشخصية “ عايد “ من أَجل الالتحاق والانضمام إليهم “ إيه عايد.. بداية الطريق. وأنت عليك أن تعود بأقرب فرصة. يجب أن تواصل الضغط على الحكومة. إننا لم نرتكب جريمة، ولا نفعل شيئاً سوى التظاهر. إذا أرادوا قتلنا جميعاً في الساحات فليفعلوا. إنهم لا يخيفوننا بالرصاص والهراوات... ألم تكتب أنت شعاراً يحمل هذا المعنى ؟... ما الذي تقوله يا عايد ؟.. لماذا تجعلني أشعر بأنك غير مهتم أصلاً بكل ما يحدث في البلد، وأن الأمر عندك مجرد حجّة لمرافقتي “ ص32 و51.

نلحظ في هذه اللقطة المشهدية أننا أمام صورة سردية قوامها الانتماء الأنثوي للوطن، رسمها السارد بلغة موحية وخيال جامح، مفجراً ما في المفردات اللغوية من دلالات تعبيرية حافزة وثائرة لشخصية “ نسرين “ في الحماسة والهيجان الذاتي تجاه هيمنة السلطة، وهذا مما دفعها لتنشيط المركز الذكوري والمتمثل بشخصية “ عايد “ للمشاركة في الانتفاضة “ إذا لم يكن موقفك قد تغيّر فإنك تستطيع حمل نفسك والمجيء إلى بغداد ومشاركة أصدقائك بما يفعلونه من شيء تأريخي “ ص56.

إلى جانب هذا تنهض مشاهد النص لفضاء الرواية بشخصيات ثانوية بعضها إيجابية أمام تيار الانتفاضة كشخصية “ أستاذ جليل “ في تحريك عجلة الثورة “ اجتمع الأستاذ جليل مع أربعة من مجموعته، ومن بينهم نسرين، في غرفة عايد، ليتسلّموا الشعارات الموحّدة التي ألّفها عايد، وقام بنسخها على قصاصات ورقية صغيرة بمساعدة نسرين وإياد ورضا “ ص53، وكذلك شخصية “ شاكر “ الذي أفنى ذاته وحياته ومستقبله تجسيداً لاستمرارية الانتفاضة “ في المرّة الأولى رفضت عمادة الكلية إعادتي إلى الامتحانات إلا بكتاب موقّع من الجهة الأمنية التي اعتقلتني، وهذه الجهة رفضت منحي الكتاب، وفي المرّة الثانية كانت إصابتي بساقيّ والرضوض في جسدي جرّاء التعذيب قد أجبرتني على المكوث في البيت لأشهر طويلة... تحت وطأة الصورة المضخّمة لقمع السلطة، أن شاكر جرى تصفيته ودفنه في مكان مجهول “ ص54-55.

 في مقابل هذا يمكن للقارئ أن يرصد زخماً كبيراً للشخصيات السلبية تجاه الانتفاضة أمثال شخصية “ علي الرفش “ معاون مركز الشرطة لناحية الإمجعْبزة والذي يطلق على المتظاهرين مصطلح المخربين وهذا ما فعله مع شخصية عايد “ هذا اللي تشوفونه.. واحد من المخربين الهربين.. الحمد لله “ “ أبو صلاح “ كشفه إلنا.. وقدم خدمة للدولة “ ص146، وبهذا تمكنت الرواية من خلال شخصياتها الإيجابية والسلبية من تصوير تراجيديا الواقع المأساوي للذات العراقية، وهذا ما جعل الروائي يستحضر لنا بعين الكاميرة عالماً يضج بالألم نتيجة هيمنة السلطة وتداعياتها السياسية، لذلك نجد أن الكثير من الأحداث التي وُزّعت في متن الرواية تدفعنا إلى القول: أن الروائي أراد أن يوثّق من ثم يعري مرحلتين، المرحلة الأولى: التحول السياسي بعد مرحلة التغيير، والمرحلة الأُخرى: المظاهرات المنتفضة المطالبة بحقوق الإنسان العراقي من خلال نسقي الانتماء وحب الوطن، لذا ضُمّنت هذه الرواية تجليات هاتين المرحلتين بصور سردية تفضح المسكوت عنه وتزيل الغبار عنه.

وهكذا نلحظ أن حدث الانتفاضة هو الجوهر الأساسي لفعل الروائي عبر انفتاحه على جملة أحداث ابتداءً من الثورة وانتهاءً بغرائبية شخصية “أبو صلاح” صاحب البدالة الذي عُرِف بالكرامات، كل هذا اشتغل عليه السارد بمهيمنات فنية وتقانات سردية تخضع لسياق الحيل الروائية، ومن هنا وُفّقَ أحمد سعداوي في روايته “الشهر الثالث عشر” في إدانته لإرهاصات السلطة وتمجيده للوطن لا لشيء إلَّا لانتماء الذات العراقية له ذلك الانتماء الذي غابت سماته وطموحاته خلف مهمينات السلطة، لذلك فالرواية تحولت بمسارها السردي إلى “ميتا سردي” ما بعد الحداثة من خلال تفكيكه لعناصر الواقع وإعادة تشكيلها بمخيلة واعية لتكون موازية أو بديلة للواقع.