اخر الاخبار

يشكل الـتوازن ملمح من ملامح التنظيـم الشكلـي في أي عمل فني، عن طريق توزيع الكتــل والحجـوم والمساحات والضوء والظل  لتحفيز لشعور بالاتزان النفسي والاستقرار، وللتوازن المسرحي اشكال منها ما يعتمد على الأثقال المتقابلة المتعادلة على الخشبة عن طريق معادلة العناصر البصرية على جانبي الخشبة، وهو ما يعرف بالتوازن المادي، وهذا الشكل لا يفي بمفرده خلق اتزان متكامل وصولا الى التوازن الجمالي الذي يستند على مرتكزات اهمها تواجد الشخصيات، ووضعيات وقوفها وتجسيده على المسرح وتحديد مستوياتها. لا يختـص التـوازن بالتكوينات الحسية المتمظهرة على الخشبة  حسب ، بــل يتجاوزه الى تتابعية الحدث ضمن فضاءات العرض المسـرحـي، وتراتبية المشاهد، فضلا عن الـتوازن الـدرامي المتحقق ضمن تنامي الحدث وفي مسرحية (كلكامش الذي راى) فان التوازن قد تخطى حدوده التقليدية الى التوازن بين الجوانب الادبية والدرامية، عن طريق مسرحة الملحمة التي شكلت على مدى عصور حضورا مثيولوجيا في الجوانب الادبية والجمالية لما لها من اهمية ضمن حضارة الشرق عموما وبلاد ما بين النهرين على وجه التحديد، بوصفها أقـــدم الملاحم الكبيرة.

     تمحورت  ملحمة  ( كلكامــش ) حـول ثيمة الخلــود وهي البحث عن بطل اسطوري ينقسم بيولوجيا الى قسمين احدهما اله والاخر بشر، تلك الشخصية الاستثنائية التي بالغت في ظلمها لمجتمعها حدا جعل المدينة تنتفض مستنجدة بـ( آنو ) ، فتضطر الاله الى خلق شخصية موازية (لكلكامش) في القوة ومعاكسة لها في الاتجاه عرفت بشخصية ( أنكـــيدو ) فتى الــبراري وصاحب الحيوانات، وما ان يسمع به كلكامش حتى يضع في طريقه (البغي) للايقاع به بعد ان تطلعه على حياته كانسان وبهذا يُبعد عنه  رفاقه من الحـيوانـات فتضعف قوته وتخور، تجري الاحداث حتى يصل الطرفان الى تحدي احدهما الاخر فتصدم نتائج هذا التحدي الالهة والمتصارعين بأن تنشأ  بينهما صداقة حميمية فريـدة مـن نوعها تزيد من قوتهما وتضاعف طاقاتهما حتى تُكـسر شـوكـة ( كلكامـش ) بحتمية نهاية الحياة بغياب (انكيدو) وحضور الموت، ذلك الموت الذي استفز (كلكامش) ودفعه الى ان يهيم على وجهه باحثا عن سر خلود الالهة، فيلتـقي بـ( أتـونابشـــتم ) الذي يخبره أن الآلهــة لـن تجتمع لمنح( كلكامـش ) الخلود الذي يبحث عـنه، فما له بدٍ سوى الحصول على نبتة الخلود من اعماق البـحر، وتبدأ المغامرة ويقاسي (كلكامش) الظروف والمصاعب حتى يصل الى مبتغاه، فتأتي الافعى عند عودته الـى ( أوروك ) لتلتهم النبتة وتــستبدل جلـدهــا باخر جديد، ويعود (كلكامش) الى (اوروك) بعد ان يكون راى كل شيء، الغيب، العمق، الموت فادرك معنى الحياة

     هذه الملحمة التي ظل يرافقني كلما مر ذكرها سؤال مفاده متى تعي اجيالنا تراثنا وملاحمنا؟ متى نقدم تجربة شبيهة بـ(اوبريت الليلة الكبيرة)؟ لاسيما مع وجود ارث رافديني كبير، وقد تكون الاجابة نوعا من المسؤولية المنوطة بالتربوي والفنان والمثقف في اظهار تلك الملاحم والقصص ضمن مكانتها الحقيقية مع تضافر الدور المؤسساتي الحكومي في دعم وانتاجية هكذا اعمال تستلزم طقسية مشهدية  خاصة للعرض مع خصوصية ان  يقدم للفتى، حتى وصلتني دعوة لمشاهدة عرض (كلكامش الذي راى) بعد ان قام بأعداد احداثها المؤلف والمخرج(حسين علي هارف) بتصرف محمود عبر تبادلية تأثيرية بين الحضور الدرامي وملامح العمل الادبي وتوازنهما في خطين متحايثين  مع باقي الانساق السيميائية غير اللغوية، فضلا عن  ايجاد تعالق مع المتلقي(الفتى) وخصوصية خطابه عبر مسرحة الملحمة لفئة تكاد تكون مهمشة جماليا واعني بذلك فئة الفتيان او (المراهقين) وخصوصيتها التي تنحو منحى المغامرات والشخصيات البطولية الملحمية فكان توظيفا متقنا احدث فيه المخرج توازنا لا ماديا تمثل في خطين احدهما بصري تمثل في الحضور العضوي للشخصية على المسرح بالاتزان مع الصوت المسجل الذي يشكل سمة من سمات عروض مسرح الدمى، فقد نجح المخرج في اختيار متناغم للاداءات الصوتية مع تكويناتها الجسدية الظاهرة على المسرح، مركزا ضمن انساق ثقافية كاشفة لمضمرات النص الملحمي على استلاب الشعوب لقدريات ربما لا تحدث، وفكرة المخلص الخارجي المنقذ من سطوة السلطة وطغيانها.

اما على مستوى فضاء العرض الذي اظهر تأثر مخرج  العمل بالنهج البرشتي وتشبثه به عبر اعطاء مساحة مهمة ضمن النسق العلاماتي للتقنيات المسرحية (الداتا شو، خيال الظل، الاقنعة، الماسكات) وكذلك في فتح نافذة للمشاكسة لأوضاع ومهيمنات البيئة السسيوثقافية عن طريق الاغاني ذات الجذر الجنوبي والموغلة في الوجع  والتي أضفت  طقسية مشهدية اسهمت في بناء اندماج عمد المخرج الى كسره بين الحين والاخر من خلال شخصية الراوي وكذلك وجود الاقنعة.

 

     فـي المشـهد الاستهـلالـي، تطل علينا شخصية الراوي من اسفل يسار المسرح  وهي تتعاطى مع القيثارة السومرية مشكلة مـوازنــة شكلية مادية تستقرئ الحدث رواية وتجسيدا في مغايرة اوجدها مخرج العمل في التعاطي المتوازن المستمر بين الصورة والكلمة في اكثر من مشهد، ومع ان حركة الراوي كانت محدودة ومرتبطة بالقيثارة التي ربما اراد (السينوغراف) من اختيار مكانتها او كينونتها اعطاء ثقلٍ يوازي ثقل الفعل القائم كمعادل موضوعي للكلمة، فجمالية السرد ظلت حاضرة مع ادهاش الصورة وترجمتها بوسائل متنوعة ايقن المسؤولون عن هذا العمل حساسية الفئة المستهدفة وضرورة اشباع ذواتهم جماليا، فكان للترجمة اساليب وطرق متنوعة تمثلت في توظيف التقنيات سابقة الذكر ، فضلا عن حضور الدمى التي ابدع (علي جواد الركابي) في تصميمها وتنفيذها، ذلك الحضور الذي اضفى على المشهدية صفة بانورامية ممتعة ساعدت في ضبط الايقاع، الا في مواقع كاد ينفلت فيها لاسيما في مشهد حوار (كلكامش مع أتـونابشـــتم) الذي ربما يعود سببه الى الاسهاب المبالغ فيه في الحوارات التي كان من الافضل تكثيفها واختزالها من قبل مُعد الملحمة، او ربما كان لعدم اتقان الاداء الصوتي للشخصية وغموض الكثير من حواراتها ذلك الاثر المباشر للتململ الذي اخترق ذوات المتلقين حتى عاد متنبها له (مخرج العمل) بعد ان وظف المجموعة بتكوينات مدروسة ومقننة تخطيطا واستخدامه المدروس للاقنعة البيضاء وآلية تحريكها مع الزي الاسود مقتربا نوعا ما من تقنية المسرح الاسود. ومع غياب التنظيم والانضباط في بعض تكوينات المجموعة ربما لقصر فترة التمرين او للصعوبة المعهودة في التعامل المسرحي مع المجموعات، الا انها شكلت صورا اثرت الحدث واضفت عليه الادهاش في اغلب المشاهدات وشكلت حضوراً للجسد  احدثت توازنا لا شكليا بين  الممـثل والمجمـوعـة مـع المنظــر المتكــون في خلفية المسرح عبر (الداتا شو او خيال الظل)، وكذلك حركة  شخصيتي (كلكامش وانكيدو) في صراعهما مع (خمبابا) التي شكلت موازنة حركية فاعلة متناغمة مع الاضاءة والمؤثر الصوتي

فظهر العمل بشكل يبعث الأمل في انتعاش هذا الشكل المهمش وقد يعطي إشارة إلى اهتمام بعض أصحاب القرار في الدولة العراقية إلى الجانب الثقافي الذي نأمل أن يستمر ويتضاعف.

عرض مقالات: