اخر الاخبار

لم يكن مفهوم مصطلح (العدالة الاجتماعية) قبل الاسلام كما هو اليوم يشير في جزء منه الى التوزيع العادل للثروة، أو الحصول على فرص عمل متكافئة، أو فكرة أعادة توزيع الثروة كما اليوم، فلم تكن الثروة وقتذاك أكثر من الخيل والابل وحليبها وبعض المعادن الثمينة وبعض المواشي أيضا، لذا نرى زعيم الصعاليك الشاعر عروة بن الورد العبسي يخاطب زعيم قبيلته قيس بن زهير الذي كان بخيلا ولئيما في الوقت ذاته، بهذه الابيات المشهورة لعروة

الصعاليك:

إنّي أمرؤٌ عافي إنائي شركةٌ           

                            وأنتَ أمرؤٌ عافي إنائكَ واحدُ

 أتهزأُ؟! منّي أنْ سمنتَ وقد ترى 

                    بجسمي مسَّ الحق والحق جاهدُ

 أقسّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ         

                          وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ

والتي لها قصة، فالشعر عند العرب قبل الاسلام مقترنٌ بقصة ما ولو كان بيتا واحد، ما يفيدنا هنا هو المضمون الفني والحقيقي للأبيات في تعبير صادق نفسيا فيه صدق التعبير الفني للشعر، عن مضمون نابع من فكر متقد للشاعر عروة الصعاليك متفاخرا بما يمتلك من صفات حميدة نابعة من فكرته في المساواة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء ايام زمانه قبل الاسلام في مقاربة بين فكرته والفكر الاشتراكي المعاصر.

فشاعرنا يرد على قيس بن زهير العبسي سخرية الاخير منه، وفي  الوقت ذاته كان شاعرنا عروة بن الورد يؤلب فقراء بني عبس على زعيم القبيلة، حيث أراد الشاعر منطق السببية في هزالة جسمه وضعف بدنه الذي كان نتيجة لتوزيعه طعامه كثر أو قل على الفقراء وضيوفه ممن يطرق بابه صباح مساء، في صورة فنية شكلتها أبياته كلها متكونة من دلالات الأبيات برمتها، حيث جاء في البيت الأول: أن الفقراء والضيوف يشاركونه طعامه حين شرح هذا المعنى أبن السكيت: (عافي أنائي، أي يأتيني مَن يشركني فيه، يقول: أملأ أناني لبناً حتى يفيض ويكثر، فأن طرقني انسان وجد ذلك مهیأ لهُ وكان شريكي قلّ أو كثر عندي)  وننتبه هنا إلى قول أبن السكيت في كلمته (فأنْ طرقني أنسان) من الاقتباس، فهي تشير إلى الفقراء أو الضيوف، معبرة عنهم جميعا بكلمة انسان، وهو يوضح معاني الشاعر عروة الصعاليك رائد فكرة المساواة بين الفقراء والأغنياء في صحراء العرب، بينما تعبّر كلمات أبن السكيت عنها:(وانت امرؤ عافي إنائك واحد، أي تستأثر لنفسك وحدك دون أضيافك) فقد عبر أبن السكيت هنا عن الضيوف وهي صفة واحدة لمَن يأكل دونهم قيس بن زهير، وهذا هجاء مرّ لقيس بن زهير لأنه دلیل بخله حيث الكرم من صفات العرب الحميدة المحمودة قبل الإسلام، التي فرضتها ظروف البيئة الصحراوية وقد أبقى عليها  الاسلام  ومدحها، ومن جهة مهمة أن هذا الهجاء تأليب للفقراء  في بني عبس على أميرهم قيس بن زهير، حيث يكون المعنى اذا كان قيسا هكذا بخله مع ضيفه، فانه أقسى وأبخل على الفقراء من بني عمومته، ويكون تأليبا لأن عروة الصعاليك هو قائل هذا الشعر، ومع ما في البيت من هجاء لقيس وتألیب علیه فقد كان توضيحيا من الشاعر للجانب المعنوي والأخلاقي في شخصيته وهي فكرته في المساواة الاقتصادية، وللجانب المادي لهذه الفكرة هو عطائه للفقراء وتزعمه حركة الصعاليك من اجلهم فهو منهم ولهم، وهذه الفكرة هي السبب ولها نتيجة مادية: هزالة جسمه، وتوضيح فكرة المساواة عند الشاعر في البيت الثاني المتصل بدلالة البيت الأول، فقد بيّن الشاعر أن سبب نحافة جسمه هو كثرة عطاؤه إذ البيت الثاني يوجه نبال هجاءه إلى قيس بن زهير من دون تشبیه أو کناية أو استعارة: ( أتهزأُ مني أن سمنتَ وقد تری) بمعنى انّك تأكل وحدك فتسمن، وأنا يأكل معي الفقراءُ والضيوفُ في أنائي فلا أشبعُ وهم يشبعون، وأنت تهزأ بهذا الحق وهذه الحال، فيما نقل أبن السكيت بهذا المعنى قولا عن الحسن بن علي ع: (أنّ الحقَ ليجهدُ الناسَ).

بينما نرى أن عجز البيت الثاني يوضح فيه الشاعر عروة الصعاليك فكرته الاقتصادية في إعادة توزيع الثروة أو العدالة الاجتماعية اليوم، فيطبقها على نفسه بأسلوب العطاء للفقراء والضيوف ويطلق عليها الحق (وقد ترى بجسمي مس الحق حق جاهد) حيث معنى (مس الحق: أخذ الحق) فاستعمال الشاعر عروة ورد لهذه اللفظة (الفعل الماضي: مس) للتعبير عن فعل الأخذ بفنيّة ومجاز عقلي وعلاقة سببية، إلا أنه يأتي بالمال من غزوه ويأخذ من غنائمه  مثل اي واحد من الصعاليك في غزواته على البخلاء من العرب.

فالشاعر يقول ها هنا في بيته أن فكرته هي الحل للمساواة الاقتصادية بين الفقراء والأغنياء أو أعادة توزيع الثروة من اجل ان يعيش الإنسان، فأخذت  هذه الفكرة منه مأخذها في جسمه وهزل لذا اتعبه هذا الحق واجهده وجعل جسمه هزيلا، ومن المهم هنا ملاحظة اطلاقه كلمة (الحق) في المساواة الاقتصادية عند الشاعر عروة بن الورد فنلحظ معناها الاقتصادي في القرآن الکریم أيضا وهو ليس ببعيد عن مدة حياة الشاعر، إذ استعمل مفردة (الحق) في موضوعها الاقتصادي الأية (۱۹) من سورة الذاريات: (في أموالهم حق للسائل والمحروم) ضمن سياقها القرآني،  حيث أبقى القرآن على فكرة عروة بن الورد في أعادة توزيع الثروة والمساواة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء والمحرومين والسائلين وغيرهم ضمن حدود مفهوم الثواب،  فأبقى الإسلام على فكرة عروة بن الورد (اعادة توزيع الثروة) هذه ولكن ضمن تطبيق إسلامي يتخلف من زمان إلى زمان بحسب مَن يحكم شؤون المسلمين ويترأسهم.

حيث أخذ الشاعر عرو ة بن الورد بتطبيق فكرته، أعادة توزيع الثروة وهي قريبة جدا - من الفكر الاشتراكي المعاصر -  وعمل بها وأنقذ حياة الكثيرين من فقراء العرب،  من الموت كما في قصته مع  أهل الكنيف وشعره يشهد على تلك القصة. فيتجلى هذا الفكر الانساني واضحا على جسمه في صدر البيت الثالث بكناية: (اقسّم جسدي إلى جسوم....)، فالجسم ما بنت من أكل الطعام وقد شرح هذا المعنى ابن السكيت:(جسمه ها هنا، طعامه) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 -شعر عروة بن الورد أبن العبسي ،  جَمعهُ أبن السكيت (  صنعة ابي يوسف  يعقوب بن اسحاق السكيت، المتوفى 244 هــ )، تحقيق : د. فؤاد محمد نعناع ، القاهرة، 1995 ، ط1 ، ص : 68 .

عرض مقالات: