اخر الاخبار

كانت الشمس مشرقة لا تغيب، وصوتنا مسموعا، كنا مفعمين بالحب والكبرياء، كانت لدينا مسارح عتيدة تفتح أبوابها ويأتيها حجاج وزوار المسرح من كل مدن العراق، كنا نعيش ربيع الحياة المكتبات عامرة والكتب تملأ الاسواق، وريبورتوار المسارح الجادة حافل بالعروض وصالات السينما والافلام الجديدة والجادة وافلام الترفيه، وقاعات المعارض الفنية والحفلات الموسيقية والسمفونيات وجيل من الشباب والشابات والرواد والمثقفين والمثقفات من النقاد والناقدات ، إيقاع الحياة لدى الناس كان سريعا ومرنا وقادرا على التعبير والحركة والتغيير وكانت عاصفة الثقافة الثورية أطلقت الأمنيات والتطلعات الحبيسة في الصدر والشعب ، كله ينشد للحرية والأمل المنشود والثقافة البديلة وحديث الناس عن الثقافة وعن المسرح والعالم الفسيح وتنوع الواقع الثقافي والتغيير في الحساسية الفنية. كنا نقرأ وبكل شغف كل الروايات والمسرحيات العالمية، ما كنا نقرأ كتب السحر وروايات الارواح والابراج والبخت وقارئة الفنجان، مقاهينا كانت ملتقى للحوار الفكري والثقافي وليس ملتقى للكسالى والتنابلة والمعوقين فكريا جماعة لعبة الدومينو.

حشود بشرية وعوائل كانت تعشق المسرح وتتطلع للحياة الجديدة، كربلاء ومسارحها وشارع صاحب الزمان والملتقيات الثقافية وشارع العباس ومقاهي باب الخان وحديث المسرح والسليمانية وأعراس ربيع المسرح الكردي ومعهد الفنون الجميلة وشارع مولوي وشارع كاوة ومقهى الشعب روح الابداع الثقافي والمسرحي، مدن تركت الأثر الجميل والذكريات الرائعة مدن لا تغادر ذاكرتي أبدآ كم غنينا في مسارحها وكم فنان رائع قدم خلاصة فكره من أجل خدمة الناس وصناعة الفرح والجمال ونال حب الناس لكي تبقى الثقافة حرة.

 سنة ١٩٧٣كنت طالبا في السنة الأولى في قسم المسرح ـ أكاديمية الفنون الجميلة- وكان الشهر أذار عرفت نحن المسرحيين عندنا عيد نحتفل به يختلف عن الأعياد الرسمية والاعياد التقليدية إنه يوم الثقافة، يعتلي كل المسرحيين في العالم خشبة المسرح المقدسة لتقديم خطابهم الثقافي والانساني بعيدا عن خطاب دهاقنة السياسة من الماكرين والخادعين، كانت المسرحية الأولى التي شاهدتها في قاعة الشعب المجاورة لوزارة الدفاع العراقية آنذاك. والمسرحية كانت روح اليانورا من إخراج أستاذي المبدع جعفر علي، كانت بغداد في ذلك الزمان محفلا رائعا للثقافة والفكر النيّر. وكنت أحلق كالفراشة ما بين مسرح الفن الحديث ومسرح اليوم، والمسرح الشعبي، فرقة العراق المسرحية، وقاعة الرباط، وقاعة الشعب، مصلحة السينما والمسرح، قاعة الخلد، ومسرح معهد الفنون الجميلة، ومسرح اكاديمية الفنون الجميلة. كانت بغداد تتزين بالزهور وبدايات لعصر ذهبي على كل المستويات وخاصة العصر الذهبي للثقافة الحرة، والتي اسس لها عباقرة المسرح العراقي حقي الشبلي، ابراهيم جلال، جعفر علي، جعفر السعدي، بدري حسون فريد، بهنام ميخائيل، سامي عبد الحميد، أسعد عبد الرزاق، جاسم العبودي، طارق حسون فريد، قاسم محمد، حميد محمد جواد، الخ. كنا نحلم ونعمل لمستقبل أفضل، وكانت أجمل هدية استلمتها من أخي الأكبر مني بمناسبة يوم المسرح العالمي، هو كتاب نظرية المسرح الملحمي للدكتور جميل نصيف، يا لروعة تلك الايام وتلك الهدية. بغداد كانت تفوح برائحة الأدب والفن والسياسة، بغداد كانت لذيذة بشوارعها وناسها وسحر الحياة ورئة الثقافة، شارع السعدون وصالات السينما والمسارح والمكتبات، وكانت الموسيقى والكتاب غذاء الروح وكنا نبحر في قارب السعادة، كنا نقرأ جميع المذاهب الفنية والادبية والواقعية والواقعية الاشتراكية في المسرح والسينما والادب، ماكنا نعرف المذاهب السنية والشيعية، وكانت مسارحنا ملتقى لسحر الحوار المبهر والخلاق، وكان يوم المسرح العالمي وشهر أذار ربيع العمر في بغداد ليس مجرد مناسبة فنية بل كان وبدون مبالغة حدثا وطنيا وإنسانيا نحتفل به مثلما نحتفل بأعيادنا الثقافية العامة، وكنا نتطلع إليه من عام إلى عام وكنا نتطور ونكسب المزيد من الخبرة والمتعة والفرح ، أجيال تلتقي تحت خيمة الوطن المسرح جيل الرواد وجيل الوسط وجيل الشباب الذي ما فتيء يفرخ المواهب في فن الكتابة والتمثيل والاخراج وسائر فنون المسرح وكنا سعداء بمسرحنا ،مسرح الكلمة والموقف ومتعة الفكر ، وربما كنا على أبواب صحوة فنية تشهدها الساحة الثقافية والصحافة والنقد المسرحي والدراسات الاكاديمية وبغداد كانت ملتقى لكل التيارات الفنية رغم فوهات ومدافع سلطة الرقيب، فرق مسرحية أهلية خاصة وفرق حكومية وعروض معهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون الجميلة وعروض مسرح الريبرتوار على طول السنة تعرض مسرحيات محلية وعربية وعالمية ، وجمهور رائع وأفواج وقوافل من المحافظات تزور المسارح وصالات السينما ووجود لوج للعوائل، وكان المسرح لا ينتمي لأهل المسرح فقط ولكنه كان فن الجماهير وفن الشعب، والكل كان يسعى جادا لربط قضايا المسرح بقضايا الحياة، وكان الفنان العراقي يحمل قلبا يفيض بالحب والود وكان فيضان دجلة والفرات وهو يهب حياة الفن خصبها ونماءها، وكان هدف الجميع أن يجعل من المسرح ومن الفرق المسرحية مؤسسات ديمقراطية ونبراسها فرقة المسرح الفني الحديث بكل العاملين وفرقة مسرح اليوم وفرقة المسرح الشعبي وفرقة العراق المسرحية وفرقة الخنساء والفرقة القومية للتمثيل واساتذة وطلبة أكاديمية الفنون الجميلة ومعهد الفنون الجميلة ومسارح كربلاء ونينوى والبصرة والحلة وجمعية الفنون الجميلة في السليمانية، الكل ساهم في تقديم تجارب الشعب الحياتية وواقعهم المعاش والمقصود هنا خلق مسرح لصيق بهموم وطموحات الانسان العراقي البسيط، وكانت الساحة الفنية تزخر بكوادر فنية من أروع الفنانين العراقيين وأرقاهم في الطرح والتفكير وفي تقديم أجود العروض المسرحية والتجارب والابتكار ومعظم المسرحيات كانت تمتاز بالجدة والطرافة والاثارة المسرحية بذكاء والالتحام مع القضايا المعاصرة، وتميزت بعض العروض بالتأويل والذكاء واستعمال الرموز والشفرات والالتحام بقضايا الواقع ومحاولة الخروج من فخ العقائدية الجامدة و التخندق الحزبي، ربما سقطت بعض الفرق في براكين السياسة او تناولهم لمواضيع وفرضيات يسارية في النشاط المسرحي والثقافة المسرحية وتبني دور الوعي للواقع والحياة الاجتماعية والتغلغل في أعماق قطاعات واسعة من الناس وخلق جيل ومتلق واع هذا لا يعني الخطاب السياسي لكن محوره الخطاب المسرحي. شاهدنا أجمل العروض المسرحية وأروع جمهور مسرحي مثل مسرحية الخان والقربان وبغداد الازل ما بين الجد والهزل ومسرحية روح اليانورا على قاعة الشعب ومسرحية يوميات مجنون ومسرح الشارع مونودراما للفنان سعدي يونس ، ومسرحية البيك والسايق اخراج الفنان ابراهيم جلال ومسرحية كان يا ما كان اخراج الفنان قاسم محمد مسرحية بضاعة عند الطلب لفرقة الخنساء ومسرحية المتنبي لعادل كاظم ومسرحية ثورة الزنج ومسرحية مهاجر بريسبان للفنان سامي عبدالحميد ومسرحية كلكامش ومسرحية قراقاش للفنان صلاح القصب ومسرحية الصقر والصياد للفنان عقيل مهدي ومسرحية غاليلو غالييه وكريولان للفنان عوني كرومي، ومسرحيات وأطروحات طلاب الاكاديمية، مسرحية الحصار اخراج قاسم ومسرحية فتى الغرب المدلل اخراج الفنان سامي الحصناوي ومسرحية سور الصين اخراج د وليد شامل ومسرحية تألق جواكان موريتا اخراج الفنان سلام الصكر ومسرحية رثاء أور اخراج الفنان عوني كرومي ومسرحيات معهد الفنون الجميلة انهض ايها القرمطي هذا عصرك ومسرحية لبنان عروس تغتصب للفنان طارق عبد الواحد ومسرحية عرس الدم اخراج الفنان زكي عبد.

 في بداية السبعينات أدركنا إن المسرح عبارة عن وطن كيف ننقل هموم الناس إلى هذا الوطن الصغير الذي اسمه المسرح؟  فالخطاب المسرحي يبدأ من مخاطبة وعي الجمهور وخلق مسرح مثقف يثير وعي الجمهور ويحرك الشارع. في زمن الحروب والموت المجاني وكبث الحريات والاحتلال والجوع تبدأ وظيفة الفنان على عكس ونقل صورة الواقع. وكانت الريادة لخلق الوعي لدى المتلقي وجود معاهد الفنون الجميلة في بغداد والسليمانية والبصرة وأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد في تنمية الوعي الإنساني ودور الاساتذة الفنانين في نقل علم المسرح وإزالة الجدار ما بين المتلقي والمسرح. كنا شبابا ونتلقى التعليمات من أستاذ وفنان مثل إبراهيم جلال ونستمع إلى نقاشاته القيمة والشيقة بخصوص وظيفة المسرح وهو يصرخ المسرح لا يعني محاكاة الطبيعة كما يقول أرسطو المسرح بالنسبة لنا محاكاة للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كنا نشعر ببوادر التغيير ،مسرح يخاطب القلب والعقل ومسرح عبارة عن خطاب وحديث انسان مع انسان ومسرح الاحتجاج والمطالبة بالحقوق المسلوبة، وجدنا المنهج البريختي وهو المنهج المناسب للتعبير عن الهموم على خشبة المسرح ،ومعظم المسرحيات والفرق المسرحية أنتجت لغة مسرحية جديدة ،ووظيفة المسرح مخاطبة الانسان عندما يكون اللقاء حميميا ووديا ما بين الممثل والجمهور ،لقاء دم ولحم ،وعقل وقلب مسرح الحياة والاداء الانفعالي وجها لوجه دون أسوار مع المتلقي واستراتيجية العمل من خلال المناظرات والمحاضرات والمناقشات وأهداف تعليمية والاستمتاع وتوفير المعرفة والخبرة والدراسات المتعمقة لأشكال المسرح والورش الفنية وتنمية خيال المتلقي وللنقد المسرحي دور كبير في استقطاب الجمهور والتعريف باتجاهات المسرحية والكاتب وكيفية وصول المسرحية إلى الجمهور من خلال البيانات المهمة والفنية وجذب وتنمية الذوق السليم وأحداث المسرحية والعاملين في المسرحية، فمثلا مسرحيات الاطفال وكسب جمهور وطلاب المدارس على شكل أفواج يتدفقون إلى المسرح مثل سرب الطيور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مخرج وناقد مسرحي في السويد

عرض مقالات: