اخر الاخبار

في رواية (غرابيل) للكاتب العراقي البصري علي انكيل (أبو عراق) استقطاب لأجواء حرب الخليج الثانية التي دارت رحاها في احياء مدينة البصرة الجنوبية وفي تخومها الجنوبية وبالذات في طريق العبدلي الرابط بين الكويت والعراق.هذا التداخل يمكن ان نلحظه، على الصعيد الزمني، في الفترة التي سبقت هجوم ما يسمى بعاصفة الصحراء وما تلاها مباشرة من نشوب الانتفاضة الأهلية بكل فصولها الدامية. يبدأ الفصل الأول بذهاب راوي النص الى مقر (الليث الابيض) وهو احد المقرات الرئيسة لدائرة الأمن بمركز المدينة. وبهذا تتمثل بتفصيلات الفصل الاول للرواية أجواء الرعب في عهد الحكم الشمولي الذي استخدم فيه الطاغية اجهزة البعث من اجل بث أجواء الرعب التي عادة ما تقترن بما يسمى بـ (جمهورية الخوف).ان الراوي محور الرواية حيث نتأمل عبر عينيه مشاهدها الطاحنة، والراوي كهل مثقف يتخذ من مكتبة بوسط المدينة مقرا يلتقي فيها بمثقفي المدينة الطليعيين. يدخل الراوي ذلك المقر خائفا متوجسا ويخرج منه اشد خوفا وتوجسا ! يمكن القول ان الفصل الاول قد حقق اكثر من هدف فني فقد سلط ضوءا باهرا على أجواء الحياة السياسية واليومية للمواطن الذي يحيا رهاب (الحكم الشمولي) الذي مارسه الطغيان واذرع البعث من اجل تدجين الروح الشعبية للمواطن العراقي، وقد حرص الكاتب على ان يتم ذلك عن طريق اختيار واحدة من شخصيات المدينة المثقفة والتي روضتها صنوف الارهاب المتمثلة حصريا باستدعائه من قبل الجهة الأمنية المتنفذة للتوثق (من انطفاء روح التمرد) في الوعي الشعبي. والواقع ان هذا هو ما ينبغي توفره في الرواية التي تتحلى بشكل من أشكال التاريخانية التي يكمن في اشتقاق الشخصية الفردية للشخوص من خصوصية عصرها التاريخي. “ في المقام الأول، نرى ان الكاتب يمكن ان ينتج صورا تاريخية اهم واكثر اقناعا اذا افترضنا وجود علاقة معينة على الأقل بالحياة الشعبية في الحاضر. “ جورج لوكاش، الرواية التاريخية، منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد 1978 ص 498 غرابيل المكان يختار المؤلف وسطا مكانيا او مايسمى بخشبة مسرح تدور على أرضها الأحداث. ومن البديهي ان يمتلك الجنوب العراقي، والبصرة بالذات، تلك الأرضية المستقبلة لطلائع هجوم الحلفاء، مثلما يعد الفضاء خشبة مسرح اخرى تقام عليها مراسيم الهجمات الجوية لقوات التحالف او ما يسمى بعاصفة الصحراء. ومن هنا يبدو من الجلي منطقية انتقاء المؤلف لمحلات مدينته وشوارعها وساحاتها حواضن لحرب غير متكافئة طاحنة تتجلى فيها الوحشية بأوضح أشكالها: “غير ان المدينة تحتفل بالشروق على طريقتها ولاعليها بما يفكر فيه الآخرون “ ص18 وأيضا كتب: “ كان صباحا يبعث على التفاؤل وحب الحياة رغم نذر الحرب التي تهطل أخبارها كالمطر من دون هوادة “ نفس الصفحة. اما شخوص الرواية الماثلون عبر سطورهم فأغلبهم من سكنة الأحياء الشعبية حيث “ طبول الحرب تتسارع ويرتفع ضجيجها، الحياة تزداد تعقيدا وتشنجا يبدو ذلك واضحا على حركة الناس ووجوههم. “ الفصل الرابع ص 26. مشيرا في السطور الأخيرة من هذا الفصل: “ في الحصار وبسبب الفقر المدقع الذي عم الجميع، كانت بعض الشرائح من الفقراء تحملت عبئا كبيرا ودفعت ثمنا باهظا، اذ ولد جيش كبير من الشحاذين ومن النساء على وجه التحديد “ ص32. المكان هو المدينة ورغم حضور الراوي الأكيد، غير ان الشخصية المحورية التي تحرك أحداث الحرب والحصار وشتى أصناف الهوان هي الحرب الطاحنة غير المتكافئة والتي تدور في كل أرجاء هذه المدينة الحلوب والمزدراة في آن معا ! يذكرنا بأونوريه دي بلزاك الذي “ لايستطيع ان يفكر بشخصياته بمعزل عن البيوت التي تقطنها تلك الشخصيات فتخيل مخلوق بشري بالنسبة لبلزاك انما يعني تخيل المقاطعة، او المدينة او ركن المدينة او البناية التي عند منعطف الشارع، بعض الغرف المفروشة ثم اخيرا الرجل او المرأة التي تعيش فيها “. يقول الناقد ياسين النصير في كتابه (الرواية والمكان) الصادر عن (الموسوعة الصغيرة، شباط 1980): “ في هذا المجال يصح ان نقسم المكان الى نوعين: مكان موضوعي وتتلخص خصائصه في بناء تكويناته بين الحياة الاجتماعية وتستطيع ان تؤشر عليه بما يماثله اجتماعيا وواقعيا احيانا. اما خصائص الثاني فهو ابن المخيلة والبحث الذي تتشكل اجزاؤه على وفق منظور مفترض، وهو قد يستمد بعض خصائصه من الواقع الا انه غير محدد وغير واضح المعالم “. ص27، ونعتقد ان النوع الاول ينطبق على أمكنة الرواية وحاضنتها متمثلة بمقر الأمن، مكتبة العشار، وفي عموم مناطق المدينة وبالأخص الشمالية منها حيث تندلع الانتفاضة الشعبية غبّ تقهقر الجيش العراقي في طريق العبدلي والعراق باتجاه حافات المدينة الغربية حيث المحلات الشعبية المكتظة بالوجوه الكالحة التي انهكتها حرب الثماني سنوات وما تلتها من احداث. وهنالك ايضا احدى مناطق التهريب الواقعة وسط الاهوار الحدودية المشتركة بين ايران والعراق حيث تمارس (سكينة) واخوها تجارة تهريب الأجهزة الالكترونية المجلوبة من اسواق الكويت الطارئة المهجورة اثر الاجتياح العراقي الكبير: تتعامل سامية ــ نباشة القبور وجارة الراوي ـ مع سكينة: ــ سكينة.. لمن تبيعين هذه الأجهزة التي هي في اغلبها عاطلة ؟ ــ ابيعها على الجانب الايراني، عبر هور الحويزة وتكون منطقة (التهلة) للتبادل عن طريق القسم بالعباس ! “ ص 39 تسرد سامية، نباشة القبور حكايات غرائبية عن المهن التي التجأت اليها الشخصية العراقية قسرا تزامنا مع تشديد قبضة الحصار الجائر على البلد ! ان اجواء تلك الحكايات تذكرنا، عبر غرائبيتها بأجواء الرواية الاميركية اللاتينية فالقمع البوليسي واحد وسيف الفقر المسلط على المواطن هو هو. ان رواية (غرابيل) هي تاريخ الروح العراقية التي يرويها النهر الذي يشق المدينة الى نصفين تجري على أرضهما أحداث تفوق الخيال من سلب ونهب واغتصاب وجثث مرمية على ضفاف جداول الضواحي ومدنها المغلفة بالمياه الآسنة مقتولة بأيدي (رفاق) السلطة ومطمورة هناك الى ابد الآبدين. يذكرنا المؤلف ببلزاك الذي “ لايستطيع ان يفكر بشخصياته بمعزل عن البيوت التي تقطنها تلك الشخصيات فتخيل مخلوق بشري بالنسبة لبلزاك انما يعني تخيل المقاطعة، او المدينة او ركن المدينة او البناية التي عند منعطف الشارع، بعض الغرف المفروشة ثم اخيرا الرجل او المرأة التي تعيش فيها “ ص 199 وينتقل بنا النص الروائي بدء من الصفحة 111 الى حاضنة اخرى للألم حيث ارض الضفة الشرقية لنهر المدينة الكبير، وحيث تقبض القوات المتمردة على واحدة من اعذب شخصيات المدينة والمحمّلة بقدر كبير من الدلالات والمعاني والرموز. انها شخصية عازف الناي الأسمر (مرجان) والذي قضى جل سنواته وهو يهب السعادة لابناء المدينة من مرتادي السينمات والساحات الشعبية والجسور حيث يتقدم لوحة اعلانات لاحدى دور السينما صادحا ومعلنا عن هذا الفيلم او ذاك. يقع مرجان في قبضة “مجموعة من الرجال مدججة بالأسلحة تقف بوجوه بالغة الصرامة ويتفحصون الناس ويدققون، بملامح مكفهرة في الجميع” ص 123 في تلك المنطقة الحدودية يصطادون مرجان متهمين اياه “باغتصاب نساء الدعاة” ص131 ومن ثم يمعنون في تعذيبه كأسوأ مايكون التعذيب عليه! ويميل المكان الذي جرى فيه القبض على مرجان الاقرب مكانا حقيقيا ومفترضا في آن واحد حيث تعامل المؤلف مع شخصية مرجان بمستويين الاول كونها شخصية حقيقية والمستوى الثاني كونها شخصية ذات دلالة شعبية وفولكلورية كبيرة. عبر تاريخ الرواية نلاحظ ان الكاتب إما ان يتعامل مع شخصياته (بآلية فنية مقصودة) فتجدهم يؤدون ادوارهم ثم ما يلبثون ان يتلاشوا بعيدا عن عيني القارئ. تتضح هذه الآلية في رواية ابي عراق اذ نلتقي بشخصيات شعبية تؤدي ادوارا معينة حتى قبل خاتمة الرواية وسرعان ما تختفي، وهو ما نجده في هذا العمل عبر شخصيات سامية وسكينة ورياض ومرجان. هذا التناول يذكرنا بروايات مثل (قصة مدينتين) للروائي الانجليزي تشارلز ديكنز ورواية (الحرب والسلام) لتولستوي ومئات من النماذج المماثلة، بينما نظل برفقة شخوص روايات مثل (جين اير) للروائية الانجليزية شارلوت برونتي حتى السطر الأخير في النص، وهو ما ينطبق مع رواية (الشيخ والبحر) حيث نرافق الشيخ (سانتياغو) في رحلة صيده المضنية منذ البدء وحتى العودة (الخاسرة) ويقينا ان رواية (غرابيل) تنتمي للنمط الأول. عموما، ومع الفارق في الطول، تذكرنا رواية (غرابيل) بملحمة (الالياذة) الشهيرة، مع ملاحظة الفروقات التاريخية بداهة.

ان رواية (غرابيل)، في ضوء المحددات النقدية، تنتمي الى الرواية الزمانية ــ المكانية حيث تدور احداثها في زمن محدد باليوم والساعة والدقيقة بل والثانية يتجلى ذلك عن طريق أحداث عاصفة الصحراء واندلاع الانتفاضة. وأيضا في حاضنة مكانية تتمثل في البصرة التي اصبحت مسرحا لمعارك طاحنة بين قوتين غير متكافئتين. يقول الناقد بيرسي لوبوك “ان الفن كلمة مجنحة” الا تنطبق هذه الفكرة على رواية مثل (غرابيل)؟

عرض مقالات: