اخر الاخبار

لاشك إن في تحوّل الأجناس وتطورها ضمن اتجاهات تغني طبيعتها؛ سمة جدلية في الكتابة. فقراءتنا لأدب الرحلات محفوف بالترقب ووضع مبدأ احتمال اغناء التجربة بالاتجاه المبدع،حيث تصح القراءة المتحولة له أيضاً. في كونها لا تشترط قوانين ثابتة، وإنما البحث في النص عما يُغني تجربة الكتابة في هذا الجنس. وهذا يشمل كل الأجناس. وما نعنيه بعبارتنا ؛ هو التأصيل والأصالة في الكتابة، التي لا تجازف في اختيار الأنماط والخوض في ما يعين النص بعفوية مزاجية،بل بأسس مكينة ورصينة. ولعل من بينها معرفياً رحلة (جيمس فريزر) والنظر إليها من باب الكشف عن غير المعلوم في تاريخ الشعوب وطبيعة البيئات غير الموطوءة. كما هو في (الغصن الذهبي) وغيره من كتاباته التي خصت التحليلات وتسجيل العادات وممارسات الشعوب لطقوسها وشعَيراتها. من هنا نجد كما وجد الدارسون أن (أدب الرحلات) له أسس بنيوية،تنهض به وتصنفه عن الأجناس الأخرى. فبعضها يمكن التجاوز عليه والعمل على تطويره بما ينسجم مع الخط العام. كما هو توظيف السرد مثلاً وتفاصيل العلاقات الاجتماعية التي تبنى عليها الرحلة قصد الكشف عن غير المعلوم في هكذا فعالية. لكن يتوجب لهذا المتغيّر أن لا ينحو بالنص إلى مسمى آخر عبر انزياح تسميته أو عنوانه الاجناسي. بمعنى التجاوز على صيرورته. ومن هذه الأسس والمواصفات البنيوية، التي تخص المبنى العام لنص أدب الرحلات ومحتواه.إن ( أدب الرحلات) نص مكاني بامتياز. بمعنى يتحرك كاتبه ضمن رقع جغرافية غير معلومة له ولنا، ينقلها عبر حافظته المعرفية ووسيلته في التوصيل. لذا نجد عنصر الدهشة مرافقة لهذا الكشف والتي تخلق التعاطف والتآزر مع النص، إذ ربما يكون ما فيه غير متوقع. وهو أيضاً يعمل كمحفز ودافع للتمادي في كشف ما يليه من جهة، والتدقيق بخصائصه من جهة أخرى. فالكشف هنا يتحاور مع مكان آخر حاضر ومكان سابق هو مكان الكاتب. أي يبني خلقاً جدلياً بينه وبين مكانه سواء بالمقارنة المباشرة أو الضمنية. وتلعب الذاكرة دوراً في صياغة ذلك الحوار الذاتي المكاني، بما يُحدث نوعاً من الجدل المعرفي، وإن كان خفياً، فهو حاصل تحصيل لبنيتين مرتبطتين. فالدالة يمكن أن يستدل بها الكاتب، ومن ثم المتلقي من بعده. فالمتلقي يجري نفس الخطوات وهو يتلقى تفاصيل النص، لأنه المعني بالكتابة هذه. فأمر حدوث جدلية في القراءة، أمر ممكن، لأن جُهد القارئ متمم للكتابة حسب النظريات الحديثة ، سواء للكتابة أو القراءة،وإن لم يكن الطرفان من بيئة واحدة. فالتصعيد في الإحساس يرافق من كان من نفس البيئة أو غيرها،أي المقارنة التي يجريها من هو خارج بيئة الكاتب.كما هو كتاب (مالوان) مثلاً  وكتابات (أجاثا كريستي) الروائية ذات الخاصية الاستكشافية، محاذية لتجربتهما في الرحيل (مالوان وزوجه كريستي). ولعل المكان المكتشف تُمارس فيه طقوس مختلفة، وتحيط به أسس أخلاقية عامة. وديانات ومذاهب مختلفة. لذا يجد الباحثون في شأن أدب الرحلات المكان والمكانية سمة أساسية خلال عكسها في النص،ومن ثم الكشف عن علاقته بتشكل الإنسان فيه كمؤثر بيئي. فالمكان تاريخ الإنسان، والعكس يصح. وفي هذا المجال وجدنا في كتابات (ناجي الساعاتي) ومن بعده (محمد شمسي) وأقرانه من جيله، واغتناء ذلك بكتابات كل من (باسم فرات، وارد بدر السالم،حسن البحار،حسن عبد راضي، علاء مشذوب،جاسم عاصي) وأقرانهم خير ما يدعم أطروحتنا، فهي كتابات اعتنت كثيراً بالمكان، ووضعته موضع وجود الإنسان.وعبر هذا استطاعت أن تكشف عن كل التركيبات الاجتماعية والتاريخية، بما فيها الديانات والمعتقدات والطقوس والشَعيرات. كذلك يعكس طبيعة حساسية الداخل إلى المكان خلال ما يقدمه المكان من نشاط إنساني وظواهر طبيعية بيئية،لاسيّما المستثنى منها، الجاذب للذائقة والملكة المعرفية. بما فيها الظاهرة الأسطورية في المكان. خاصة من اشتبكت فيه العلاقات والطقوس مولدة بذلك خاصية مكانية وإنسانية. هذه  الحالات تُثير الراحل إلى المكان، وتخلق في ذاته نوعاً من المقارنة. فالشرقي يقارن بينها وبين طقوسه في بيئته، باحثاً عن المشترك مثلاً. الميّزة التي يتصف بها أدب الرحلات، هي كوّنه يجمع بين سيرة الشخصية وسيرة المكان، فهو أدب مكاني بامتياز. وهذا يسحبنا بطبيعة الحال إلى نص التجربة والممارسة المباشرة والحيّة. فرحلة كل من (مالوان وأجاثا كرستي، فريزر، ناجي الساعاتي محمد شمسي، ثيسغر) وغيرهم تميّزت في كوّنها حققت ريادة في كشف خصائص الأمكنة التي دخلوها، عاكسين كل ما يتعلق ضمن وجوده الأنثروبولوجي من عادات وتقاليد وطقوس  وتاريخ. وبهذا تحققت الفائدة والمتعة معاً. وهنا لابد من الإشادة بجهود لجنة (ناجي الساعاتي) في إقامة مسابقة سنوية لأدب الرحلات، حققت خلالها جملة كتب بهذا الشأن.

عرض مقالات: