اخر الاخبار

د. صبيح الجابر

كتاب القاص والروائي حنون مجيد (يوميات كوفيد 19). عبارة عن ساعات طويلة وقاتلة لايام عديدة، مكتظة بالألم والخوف والقلق، خوف من شبح مرض اجتاح تفاصيل الكوكب الأرضي وأصاب بالرعب، واخبار الموت المجاني بامتداداته الواسعة.

تكشف لنا اليوميات التفاصيل الدقيقة التي تبتدئ بصدمة اعلان اصابته بهذا المرض، الغريب، الجديد، المجهول الهوية، والمرعب والمخيف للبشرية جمعاء بمن فيها علماء الطب والأطباء في العالم، خاصة في أيامه وأشهره الأولى، التي تعرضها فضائيات العالم، وحيرة الاحياء في إيجاد مقابر خاصة لدفن رفاة الآلاف من الموتى.

تخبرنا التفاصيل، بان صاحبها التزم بتوصيات ونصائح الأطباء، ونتائج التحليلات المخبرية، وإزاء هذا المرض اتجه الكاتب الى تجربته الأدبية، الطويلة مع الكتب الأدبية، والقراءات القلقة، والاعتماد على العقل والفكر، وخزين الأدب السردي الذي مارس كتابته منذ سنين طويلة، وقد تفوق الكاتب على خوفه ورعبه من هذا الكابوس، وما يحمله من لغة لا تعرف سوى الخوف والقلق والألم من خلال تطويعه للغة الأدب، الشفافة العذبة اللذيذة، وجعلها مطاوعة بين يديه لتستوعب مضامين الموضوع القاسية، والجافة، حتى وصل الى حد اغراء القارئ بمتابعة تفاصيل هذه الآلام في ساعاتها المتواصلة، والانسجام مع شفافية اللغة، على الرغم من تحمله للآلام والخوف والقلق، والتي ابتعدت الى حد ما عن اشباح الموت.

وهذا هو السر الذي جعل المرض عاجزاً عن النيل من حياة الكاتب، مع أن جسده كان يتمزق من آلام المرض، والامراض الأخرى المصاحبة.

وحين عاد الكاتب الى كتبه القريبة من قلبه، واصحابها الذين أثروا في مشاعره واحاسيسه أيما تأثير، ذهب الى (غربال الروح) لجلال الدين بن الرومي يبحث عن المشاعر الإنسانية تاركاً شبح الموت، وشدة الآلام، وفتك المرض المرعب، الذي كان يجلس بالقرب منه على سرير المرض.

وحين عمد الى قراءة دواوين وكتب الشعراء والحكماء القريبين من قلبه وروحه اختار منهم جلال الدين بن الرومي وسعدي يوسف، ولو ترك الخيار لي، لاخترت من عاش طقوس الموت في لحظاته الأخيرة، وكان في مقدمة هؤلاء مالك بن الريب، الذي خاطب رفيقي رحلته قائلاً:

فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا... رابية إني مقيم لياليا

او قوله:

تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد... سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا

كما أنه يستشهد بقصيدة للشاعر سعدي يوسف، بعيدة عن شبح الموت ومخاوفه، ولو ترك الخيار لي ايضاً لاخترت مقطعاً او اكثر من قصائد السياب الكثيرة، وهو مسجى على سرير الموت، وكان يهذي بقصائد شعر هي أقرب الى الهذيان منها الى الشعر في تلك الساعات الأخيرة المخيفة:

يا ليل اين هو العراق؟

أين الأحبة، أين اطفالي؟ وزوجي والرفاق؟

يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظرة

نحو الخليج، تصوريني اقطع الظلماء وحدي

او وهو يوصي زوجته اقبال:

اقبال زوجتي الحبيبة

لا تعذليني ما المنايا بيدي

ولست لو نجوت بالمخلد

كوني لغيلان رضى وطيبة

كوني له أباً وأماً وارحمي نحيبه

حنون مجيد كشف لنا في زيارته الثالثة لاستلام النتيجة، الفحوصات، واستلام شهادة البراءة من مخاطر هذا الداء المباغت، كيف سرت الفرحة في عروقه، وكيف دبّت العافية في دمه، لتحل محل الآلام، التي اجتاحت كل كيانه وازاحته الى حافة الهاوية. كما كشف لنا وهو في غمار فرحته كيف استعاد دميته من مخالب العبث الغادر، بعد أن استولى عليها، أي على جسده، وترك روحه الصامدة تقاوم الألم والخوف حتى أعادت الروح جسدها الممزق بمخالب المرض العابث، وهذا هو سر نجاح وسلامة صديقنا العزيز حنون مجيد حين احتفظ بروح المقاومة والشجاعة وحكمة الحكماء، المعبّر عنها بلغة سردية منتقاة الالفاظ، وشجاعة وشاعرية الجملة وشفافية القول الأدبي.

اسماعيل ابراهيم عبد

لقد تعرضنا ومعنا السرد العراقي الى أجمل ضلالة في حياتنا الثقافية. حدث هذا في كتاب السارد حنون مجيد، يوميات كوفيد19، الصادر من اتحاد الادباء للعام 2021. ذلك ان الكاتب جعل من كوفيد19 مبرراً ليزفَّ لنا ثقافة تمتد أُصولها الى أبعد من 50 عاماً، وفيها ومنها تتفرع المعارف (الطبية، الاجتماعية، السياسية، الأدبية). وطبعاً أخطر ما فيها هو الأدب الذي شيده السارد حنون مجيد بجيد رؤى في الفن والنقد والشخوص وعلم الخواص.

ان من الطريف في هذا الكتاب القوة في الاقناع والصدق في الاداء السردي، والواقعية الحادة جداً، وأول ملامح التضليل هو العنوان، فالكتاب ليس يوميات لكوفيد، انما يوميات لكواليس حنون مجيد الثقافية، وكواليس كتاباته، وعلاقاته، ورؤاه.

يمكنني ان اتابع الضلالة هذه بكونها موسوعة فعل سردي يبدأ بالتضليل وينتهي بالحكمة وتخليد المعرفة عبر حاملي مشعل الجمال في القص الانساني والفلسفة الشعبية وقيم الخير والفضيلة المعرفية.

أنْ ليس من الدقة العلمية ان نلحق بالموسوعة محتوى التضليل، فالمعروف ان الموسوعة هي الأقدر على صنع الثابت الدقيق من المعارف، والمرجع العلمي الموسع.. الخ..... ونعلم جيداً ان الموسوعة تحيل الى كشف الضلالة وليس توجيه المعرفة نحو العتمة والخلط والريبة والتوجس من المعلومة.. كل هذا صحيح ودقيق إلّا في كتاب يوميات كوفيد19 فهي مضلة تظلل علينا بالود والخير، وتسرب لنا الكيفية الموجبة لتلافي مضار اللعنة، لهذا المرض او لغيرة. ان هذه الضلالة الجمالية تعكس الألم الى سعادة ومتعة وطريقة لتخليد المبدعين، وطبيعة تؤشر القيمة الوطنية بلا مباهاة أو مِنّة, انما المؤاخاة ولا أقل من ذلك.

ان الكاتب يتوسع في التضليل الممتع كونه مبدأ فنياً واشارياً. ويمكن الاشارة الى واحدة من جماليات هذا التضليل، وهي ان المضمون في الكتاب لم يتقيد بمدة اليوم هو يسجل اللحظات بتتاليها اللا زمني، ويعبر بالتوقيت الى أكثر من اليوم، أو اقل من اليوم. ونرى ان هذه الوسيلة يُراد منها التذكير بالأيام العربية في الحروب كونه يحارب كوفيد 19، او هي يوميات مقاربة فنية تتناص مع أيام طه حسين!

يريد الكاتب إثبات ان أدب اليوميات هو أدب مهم ومتنوع الأغراض ووسائل الفن الكتابي، وهو جدير بتوجه النقد الجاد نحوه.

ولأجل ذلك ينوّع أنساق خطابه :

ـ فهو في الغالب خطاب (أدبي نفسي) بأُسلوب التماهي مع المعارف القبلية مثلما هو حال ص25، إذ يستعيد شخصية ابن الرومي عبر قصة غربال، مثلاً.

ـ وله خطاب بأُسلوب المقالة الفكرية، مثلما هو على الصفحات من 66 إلى 79.

ـ وأحياناً يأخذ جهة نقد النقد المُطَوّر، اذ يتجاوز نقد الأفكار الى اجتراح بدائل لها، مثلما هو الحال على ص71.

ـ وهو كذلك يستعيد عبر الذاكرة ارشيف حياته وحنانه، مع نفسه والحيوانات الرفيقة لرحلته، ويواسيها مثلما الأطفال الذين فقدوا الرعاية.

ـ فضلاً عن أساليب عديدة كالأسلوب الصحفي والعلمي والسينمائي... الخ... وغيرها..

يدوّن السارد أحداث الشهر (المُعنى به) تحت مظلة أربعة أجواء إبداعية :  الظرف الأول / جو السرد / الذي كتب واستعاد عدة قصص قصيرة مثالها فراشة ص76 77، وقصة الموقف واحد يا صغيرتي ص83.. وغيرها.

ـ الثاني / الجو الروحي / المتأثر بالموسيقى الكونية، وموسيقى الشعر، وموسيقى الأغاني وتلك شائعة في صفحات كثيرة من الصعب حصرها.

ـ الثالث / جو الذائقة / وهي تتراوح بين النقد ومتعة الحس بالصفاء الروحي، وجمال الاصغاء الى حركة وجمود الطبيعة. وهو جو يشيع كثيراً عبر الأماني بالشفاء والتمتع بهذه البيئة الجمالية.

الرابع / جو التذكر / وفيه يَنْشّدُّ الكاتبُ الى ذكرياته مع أصدقائه الكثيرين جداً، رجال ونساء.

* تلك الأجواء أخذت روحها من طاقة الحنان والحنين والوفاء، التي تختبئ في وجدان الكاتب، بقلبه الكبير، وطيبته الاسطورية!.

* غطت هذه الأجواء مثلاً الصفحات من ص43 إلى ص63.

ان الألم الذي تحدث عنه علي حسن الفواز بِعَدِّهِ سرداً، في الحقيقة هو ألم ليس فردياً وليس من كوفيد 19حصراً، انما هو تأسي بأربعة أنماط عَبَّرَ عنه بقيمة الخوف والتوجس، إذ أنه /

ـ يخاف على وطنه من الكارثة الصحية والمجاعة والتبعثر، فيما لو ان المرض انتشر دونما قدرة على إيقافه.

ـ يخاف على أصدقائه المتبقين خاصة وأن الراحلين زاد عدد بشكل مريع ومؤسف، ولا يبشر بأي خلاص، كونهم من خيرة مبدعي البلاد.

ـ يخاف على عائلته، فهي عائلة كبيرة من الأولاد والبنات والأحفاد والحيوانات التي ربّاها.

ـ يخاف على نفسه من ان يفقد قيادها الى أمراض جديدة، أو فقدان ذاكرة وربما فقدان الحياة، خاصة وانه يخطط لمشاريع ومشاريع للإنجاز الفني. * إذاً كان خوفه ليس من كوفيد، انما من فقدان بلاده وأُناسه مشاريعه وأحباء حياته!.

أخذت مقاومته للألم والفقدان طرائق ثقافية من طراز خاص، فهو يُلهي نفسه عن ظرف المرض بالقراءة والكتابة ونقد السيرة الثقافية للبلاد، فضلاً عن ان يجترح طبيعة تخص التلويح بضرورة إعادة النظر بالكثير من الفعاليات الثقافية التي حدثت في الماضي، وغيرها الموجودة حاليا. فهو :

1 يقترح إعادة النظر بأدب الرسائل، خاصة بين الأُدباء وحبيباتهم، أو بين الأُدباء وزوجاتهم. ولعل أطرف ما جاء في هذا المجال ما احتوته الصفحات من 89 إلى99 كرسائل علي جواد الطاهر، وما جاء في كتاب الرسائل لأمل بورتر.

يؤشر حنون مجيد ظاهرتين دقتين جداً في هذا هما :

ـ ان الأُدباء لا يكتبون رسائل للزوجات إلّا ما ندر.

ـ وان لا الحبيبات ولا الزوجات يجبن عن الرسائل بسبب الحياء الاجتماعي. 2 يخلد بلوعة تشبه النواح جميع الأصدقاء الراحلين ويكشف عن رؤاهم عنه ورؤاه عنهم، بطريقة توحي بالاعتذار، كأنه هو مسؤول عن بعض أسباب وفاتهم،, وهذا جزء من مظلة التضليل الفني لدى الكاتب.

3 اللجوء الى استعادة أدب الحكمة، مثلما عمل مع جلال الدين الرومي وفردريك نيتشه وسعدي يوسف وابن حزم الاندلسي فروغ فرخزاد.

* وطبعاً من المستحيل ان يسهو عن مرضه ولا يقاومه بالادوية، لكن يوجد شيء طريف في هذا أيضاً، الا وهو انه يستحضر خوفه من الكلية والمجاري, مبتعداً قليلاً عن كوفيد 19 قليلاً.