اخر الاخبار

تتحدثُ المسرحية عن زوجين، في الخمسينيات من عمرهما؛ لا قدرة لهماعلى التواصل وقد تم أدائها من قبل الممثلين بشكل ملحوظ. نشاهد من الوهلة الأولى للعرض زوجة تتحدث دون أن تنظر ناحية زوجها، وزوج يتكلم معها دون أن تستمع لما يقوله لها، ومع ذلك فهما يحبان بعضهما البعض! المرأة والرجل يتقاطعان في الكلام وفي الحركة، وكل منهما يتطور في مكانه من خلال سرد تاريخه الشخصي وذكريات الماضي المتشظية. نلاحظ أن الزوجة منغمسة في حلم شمسي، والزوج غارقٌ في واقعية مفرطة، بسيطة، وفظة في غالب الاحيان. ذكرياتهما التي تسترسل امامنا كشريط سينمائي متقطع تبدو متباعدة، مختلفة مثل الليل والنهار، ولا تلتقي ابداً. كل منهما محبوس في ماضيه، يحاولان اختراع مشاهد ينقلون من خلالها إلى الشاطئ، الحانة، الفندق والمنزل. إنهما نوعا ما يبحثان عن الماضي في المعناة، وغياب الطفل أو الأطفال. فعزلة الزوجان، حياة متوازية، حيث نجد كلاً منهما يعيش في عالمه الخاص. وهكذا نجد أنفسنا امام جرارات من الذاكرة التي تستمر دون تواصل حتى الانفجار، والصراخ، والمعاناة. فالرجل يعيش بالحاضر تماما، في حين أن الزوجة، تعيش في الشعر، وفي عالم داخلي من الماضي، ومن الذاكرة. ونستخلص من كل هذا لاغتراب، إن صح التعبير، أن علاقتهما يبعضهما لا تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى تعزيز الشعور بالوحدة والعنف. لهذا السبب، نلاحظ أن الشخصيات تتحدث دائما مع بعضها البعض بحذر، كما لو انها لا تريد أن تنغمس تماما بالحديث أو أنها تحذر مما قد يحدث في حالة استغراقها فيه، إنها شخصيات غير متوقعة وخيالية حد الغرابة.

في النص وضع هارولد بنتر شخصيته في المطبخ مع طاولة طويلة يجلسان عليها متخذين من كل طرف منها مكان لجلوسهما، ولكن في نص العرض وضعتهما المخرجة في فضاء مجردة، يكاد أن يكون فارغاً، لا تملأه سوى المشاعر الإنسانية الموجعة، وبعض الإكسسوارات التي تشير ضمنيا إلى المطبخ، الحانة، الفندق، وشاطئ البحر، التي رسمت حدوده سينوغرافيا العرض من خلال إضاءة عازلة، جعلت من الفوهة المقابلة للجمهور تبدو وكأنها بحراً، وشاطئا، ورمل تتغير خرائطه بسبب حركة الأمواج المتلاطمة في داخلهما، خاصة عندما يتحدثان عن البحر أو عن انتقالاتهما من مكان لآخر عبر شريط ذكرياتهما. في عمق المسرح كانت هناك نافذة مغلقة رسمتها الإضاءة أيضا، لم تفتح طيلة العرض، لأن الغرض منها أن تكون مغلقة بشكل غامض، لكي تشير ربما وبشكل مجازي لحالة الحبس الذي تعيشه الشخصيتان، وفي وسط المسرح مربع ضوئي فارغ من الداخل وضعت داخله وخارج حدوده بشكل خط مائل (استولات)، تشير من خلالها السينوغرافيا إلى الفضاءات التي اثثتها بكل اقتضاب وكثافة واقتصاد، بمفردات عملية جعلت من مكان اللعب يكون حرا، وانيقاً، سمح للخيال بأن يأتي ليملا الثغرات، التي تغلفها أو بالأحرى تغذيها الأحاسيس، لأن فكاهة هارولد بنتر غالبا ما تكون ساخرة، منحرفة وتتركنا أحيانا نتعلق بما قد يبدو متماسكا بالنسبة لنا، وهذا في الحقيقة مجرد ممر خفي إلى العبث.

إن بناء العرض بمجمله كان سلساً، منسجما مع نفسه ومع النص الذي عملت المخرجة دلال فياض على حمايته من أي دعم غير ضروري. بحيث بدت الصور التي أحالتها المواقف وكأنها خارجة من حمام هزلي غامض، فهي لم تخن النص، بل لونته بنغمات وإيقاع مناسبين. ننتقل من خلالها (وأقصد من خلال الصور والمواقف) من مكان إلى آخر باستمرار، ومن لحظة والى أخرى ولكننا مع ذلك نبقى في نفس عالم هارولد بنتر، الساخر والمضحك. لقد سلط الإخراج بشكل مثير للأعجاب على هاتين الشخصيتين اللتين خنقهما الاحتفاظ بحواسهما، مما جعلهما يميلان نحو البحث عن الماضي، في تمرين هائل للذاكرة، ولعبة من التهرب والمراوغة الغامضة. ففي بداية العرض نشاهدهما وهما يجلسان بالقرب من بعضهما تقريباً، ولكن شيئا فشيئا صارا يبتعدان وتتسع الهوة أو المسافة بينهما، بل أن مشيهما أو تقاطعهما في الحركة على خشبة المسرح، صار يسير بطريقة أو يتحقق فوق سطح مساحتين متوازيتين، لا يمكن أن يلتقيا عليها. وهذا التأسيس الإخراجي للحركة في الحقيقة ما هو إلا ترجمة وفية لما يدور في ذهنيهما من عزلة واغتراب. وهذا ما عززته الموسيقى أيضا من خلال إيحائها ربما إلى أمكنة ذكرياتهما بشكل قاتم، ومن خلال ترجمتها لحالة عدم قدرتهما على التواصل، خاصة عندما كانت تتعالى في اللحظات التي يسكتا فيها عن الكلام، ويبقيان في حالة عزلة من أسلحتهما ودروعهما الكلامية التي يختبئان خلفها دائما، تتعالى الموسيقى لكي ترافق صمتهما، حركاتهما المرتبكة، والمترددة، التي شكلها العرض مثل لوازم أدائية صامتة، والتي نراهما وهما ينهضان عن مقعديهما وكأنهما قد قررا أخير أن يكسرا الجدار الوهمي الذي وضعاه أمامهما وسوف يتحدثان لبعضهما بشكل مباشر، ولكن سرعان ما يخيب سعي العشاق، وفقا لعنوان احد نصوص شكسبير، ونصاب بنفس الخيبة، التي  تصاب بها الشخصيتان، عندما نراهما يرجعان لانطوائهما على نفسهما بعد استعراض سلسلة من الحركات، مثل إدارة ظهريهما لبعضهما، والتردد، والالتفات ناحية بعضهما من جديد مرة أخرى، ولكن بلا جدوى دائما. وكأنهما قد قررا أن يواصلا الحياة والعيش معا بهذه الطريقة من العبث واللامعقول. فحتى المونولوجات المتشابكة لهما كانت دون رد، لا تستجيب لبعضها البعض، ولكنها مع ذلك جعلت من لغة الشعر تقف ضد الواقعية، والوداعة ضد الوحشية، والشهوانية ضد الحيوانية، فهي تتحدث عن البحر، والزهور والعصافير، وهو يتحدث عن براز الطيور، وعن الكلب والبيرة التي تشبه الادرار.  وتبقى هناك فجوة بين الزوجين، كان كل منهما يعيش في فقاعته، بشكل هش، وشفاف، وهو يحمي نفسه ليعبر بحساسية أو وحشية عن معاناة حبسه. مثل جزئين موسيقيين في نفس السيمفونية. إن الأداء كان رائعا ومنصفا، حيث العاطفة الواضحة، والصمت أو الثورة والغنائية والمأساة. وقد اتحدت في أداء الممثلين الكرامة، والسخرية والنقد اللاذع لتمنح الشخصيات مصداقية لا تصدق ووثيقة. كان كلامهما وحركاتهما صحيحة وتخدم بدقة روح الدعابة القاتمة والقاسية بلا هوادة. نعم كان الممثلان رائعين، كلاهما يتمتع بقوة داخلية استثنائية.

لقد وجدنا أنفسنا كمتفرجين محاصرين، بين انجرافنا إلى الجانب الهش للمرأة وخارج زمن تيهها، وبين اعادتنا بوحشية إلى الواقع من قبل الجانب البدائي للرجل الذي يتحول شيئا فشيئا إلى وحشية وعنف، مثل نوع من الصرخة، كرمز عن معاناته.

عرض مقالات: