اخر الاخبار

لست أدري لماذا أشعر وانا اقرأ أي منجز إبداعي من منجزات صديقي الرائع الروائي والقاص خضير فليح الزيدي، بشعور غريب يعود بي إلى أيام الشباب وكيف كنت اتسابق مع بعض الاصدقاء على قراءة رواية أو مجموعة قصصية حتى نبدأ الحوارات الخرساء أو المعلنة بشأن أحداثها وصور ابطالها والهفوات التي وقع في فخها المؤلف..وكنت اواصل تلك النقاشات مع زملاء اعزاء ومنهم الراحلون فؤاد التكرلي ونزار عباس وموفق خضر وصديقي الدائم موسى كريدي والناقد عباس عبد جاسم، حتى ينتهي بنا المطاف على تخت عتيق في مقهى البرلمان بشارع الرشيد.

اسوق ذلك وأنا أعيد مع ما تبقى في ذاكرتي من نصوص ظلت إلى يومنا هذا شاخصة من بين عشرات النصوص الغائبات الحاضرات ومن أبرزها ماكتبه الروائي الروسي فلاديمير نابوكوف من قصص وحكايا كان لدور ابطالها الأثر الكبير في ترسيخ بناء الفكرة التي يتناولها الكاتب وتكون هي المحور الأساس في البناء الفني القصصي الذي يحدث عند القاريء ضجة متناهية ومن أبرز ما كتب فلاديمير نابوكوف رواية( لوليتا ) والتي أثارت جدلا واسعا بين الأوساط الثقافية آنذاك فبطل الرواية( همبرت همبرت ) هو إنسان شبق ومراهق ويعشق العلاقات الجنسية مع الصغيرات في العمر وتميزت قصتها أيضا( بسبب أسلوب الكتابة فالسرد كان ذاتيا بحتا، حيث يروي همبرت همبرت مقاطع مجزأة من ذكريات موظفا في ذلك أسلوبا نثريا متطورا، في الوقت الذي يحاول فيه كسب تعاطف القاريء من خلال صدقه واحزانه  على الرغم من أنه قبل نهاية القصة بقليل وصف نفسه بأنه مهووس حرم( دولاريس ) من طفولتها ثم أشار بقليل إلى أكثر الأمور بؤسا في الحياة الأسرية أفضل المحاكاة الساخرة لزنا المحارم الذي يشاركه مع دولاريس )..

وهكذا إذن حقق القاص خضير فليح الزيدي مراده في إيصال أفكار ابطال قصصه الواحد تلو الآخر بدءا من موظف حديقة الحيوان والنساء وهن يقتلن( أبا بريص ) المتسلق الشبق على حائط الحمام بعينيه الحاحظتين، فهو يستمتع بعريهن فأستوجب التهامه أو افتراسه قبل التمتع بأجسادهن...أو الناس الذين يموتون ثم يسجلون كضحايا في سجلات الطب العدلي أو ربما يقال عنهم في الأخبار “اصيبوا بنيران صديقة “بينما السؤال يبقى محيرا كيف تكون النيران القاتلة صديقه؟!!

ومن هنا نرى الكاتب خضير فليح الزيدي يذهب بنا بعيدا في بعض محاور قصصه ضمن مجموعته) منديل الماركسي) الذي يقول عنها (..كان بودي أن اسمي هذه القصص ومنها قصة(الشيوعي الحزين) لكن مجيئه إلي في الحلم ليخبرني بأنزعاجه الحاد من العنوان، يقترح تسمية جديدة (منديل الماركسي) حتى أنه راح يشرح بطريقته المعتادة والسيجاره بفمه ينفخ دخانها بوجهي )...ويكمل الزيدي حديثه بأنه استجاب في الحال على فكرته وغير العنوان....

لقد كتب معظم العباقرة في الأدب وتحديدا في مجال القصة والرواية الكثير من الأعمال الكبيرة والتي امتازت بقدرة فائقة على المناورة واستخدام عامل الرمز والوصف والاسطورة في بناء الفكرة الأساسية التي تقوم عليها أحداث الرواية أو القص القصير..فكانت روائع كثيرة سطر خلالها من الأفكار والمحاور ما يشبع الذات الغريزية عند القاريء أو الدارس وهو يغور في اعماق تلك الملاحم الغرائبية والعجيبة...والذي يتمعن في قصص( منديل الماركسي)   للقاص خضير فليح الزيدي يرى أنه عالج فيها قضايا مصيرية وإنسانية مهمة تحدث فيها بلغة الغائب أو الحاضر المنسي، عن مشكلات مرت البلاد وعصفت بها وراح بين طيات تلك العواصف والاهوال العشرات من الضحايا الذين سجلوا في سجلات مجهولة ليس لها أي دليل واضح....ناهيك عما شهدته البلاد من حروب دامية وتقاتل على الهوية اسفرت مجتمعة عن خلق حالة من الفوضى والهلع والقلق الدائم للجميع...فلم يعد بأستطاعة أحد أن يرسم صورة واضحة لماتشهده البلاد من حالة عدم توازن واستقرار، بعد أن سحلت الروح البشرية سحلا بين اروقة الشوارع الخلفية للموت والتشرد بحجج واهية لا تنطلي اهدافها الخبيثة على انسان يمتلك حواس العقل السليم...

وخضير الزيدي الذي استجاب لصديقه بأن يفرق بين فكرة الشيوعية كتنظيم والماركسية كمنهج، كان أدرى بهذه القضية المهمة، لكنه أراد في هذا ان ينصف ذلك الصديق الذي أمضى عمره في الغربة فلم يحتف به كقديس لغربة ساخرة، غربة أضاعت معظم سني عمره في تفاصيل التفاهة...

اقول ان القاص خضير فليح الزيدي قد حقق في منجزه  (منديل الماركسي) الكثير في أسلوب السرد وبناء القصة القصيرة واستطراد واستهلال محاورها الأساسية التي تنبع من تشابك أحداثها ومجريات شخوصها الذين يتنقلون بين فضاءاتها بحرية مطلقة في سبيل تجسيد الحدث وسبك الحوارات والسرد على مستوى كبير من الحبكة والدراية والمهنية والحرفية التي فاقت كل تصور في الكتابة فبعد أن كنا مبهورين بما كتبه عبد الرحمن مجيد الربيعي في «الوشم» و»الأنهار» وعلي خيون في «بلقيس والهدهد» و محمد خضير في «المملكة السوداء» وحسب الله يحيى في «اصابع الأوجاع العراقية» وغيرها من الروائع التي تقف بكل جلالة مع مثيلاتها في الغرب والمكتبة العربية، بعد ذلك صرنا اليوم نحتفي بمبدع اخر على طريق تحقيق الهدف في الكتابة والوصف والتعبير..

عرض مقالات: