اخر الاخبار

بول ريكور في سيرته الذاتية المعنونة (بعد طول تأمل) كتب في مقدمة الفصل الأول، “السيرة الذاتية الفكرية” قال فيه : الحديث عن ترجمة ذاتية لا يجعلني أغفل عن مطبات وعيوب هذا الجنس من الكتابة، ذلك أن الترجمة الذاتية هي أولاً، حكاية لوقائع حياة ما، ومن حيث هي كذلك انتقائية ككل عمل سردي، ومن ثمة كانت، ولا مناص من ذلك، محكومة بجوانب شتى من النظر والاختيار هذا، ولبلاغة السيرة عند ريكور صدى في الصورة التي تختزنها الذاكرة وقد امتلأت بقصص الحياة التي عاشها هو سواء أ كان ذلك في الحرب والأسر، أم في عالم الفلسفة، والأفكار والتيارات الفلسفية المتصارعة في حياة الجامعة أو خارجها، ولعل بول ريكور قد جمع بين الفلسفة والسرد (الكينونة والسرد) فهو صاحب فلسفة الإرادة، وله كتابه المهم (محاولات في الهارمنيوطيقا من النص إلى الفعل) واحتشدت حياته بصورة السرد كبارت التي تعلم الناس معنى الهوية والتماسك، وكذلك كانت كتابة ريكور كثيراً أيضاً عن حقيقة الوجود الإنساني، والبحث دوماً عن سرد يزودنا بذاكرة تاريخية أو مستقبل، فالسؤال الذي يوجه لريكور : هل يعتقد إن السرد ينطوي على طاقة إيجابية علاجية ؟ هذا أكيد، فحنة أربدت الفيلسوفة الألمانية يقول ريكور إنها تدعي إن الأحزان تشعر لو وضعناها في قصة أو حكينا قصة عنها، وهذا يعني إن السرد له علاقة بالصورة السردية التي تخزنها الذاكرة لحين ظهور الحاجة إليها، فالصورة هنا تنغرس في عمل الكينونة الأساسية وتتسرب كالجوهر، بجذورها في نسغ العالم الذي تحيا فيه والسيرة الذاتية (أو الترجمة الشخصية) من أقدم وأمتع الأجناس الأدبية في الآداب الإنسانية على الإطلاق، ومنذ العصر الحديث أصبح كاتبها ينشد مواجهة حقيقة ذاته الخفية في مرآة الحق واليقين وسواء تطابق هذا القول على بارت أم على ريكور، فالموقف نفسه يتجدد في إن لبلاغة السيرة الذاتية (الشخصية) أثراً فعالاً مثل الصورة التي يحددها البعد البصري أكثر ما يعمقها الفعل اللفظي، خاصة إذا تعلق الأمر بالزمان (كما سنرى في صورة حديقة الشتاء لبارت) فغاستون باشلار في كتابه (حدس اللحظة) قد خطا أول خطوة عام 1932 في طريق الكشف عن ماهية الزمان بعد تحليل دقيق متأن لتصور برجسون عن حدس الديمومة بما يعني إننا نتلقى العالم بالصور أي نعرفه بسيل من الصور، والعالم الذي نراه هو عبارة عن نوع من الأمكنة، يقول بارت في إجابته عن سؤال عن انشغالاته الآن، فكان جوابه : لقد كنت اهتم دائماً بما يمكن تسميته بالوظيفة الخاصة بالأشكال التي تتحدد بالصورة، لذا علينا أن نفهم تقنيات الصورة البصرية، وعلاقتها ببنية الخطاب البصري في مقاربة تحليل سيميولوجي لـ(صورة حديقة الشتاء) لنربط بين الصورة البصرية والسيرة الذاتية لبارت التي اظهرها ناستالوجياً العلاقة الوطيدة بينه وبين أمه، وكتب عنها كثيراً في يوميات الحداد. وكان بارت قد اعتمد على آليات وتقنيات تجسيد الصورة البصرية للمنظر الكئيب والمأساوي لصبيين (امه وأخيها وهما وحيدان يقفان على جسر خشبي بترتيب يرسم الوضعة الأمامية أمام آلة الكاميرا (الشعور لبارت بالوحدة أمام عين الكاميرا لأمه وأخيها بقوله بالمنظور اللفظي إنهما يعانيان من طلاق والديهما) هنا الخطاب البصري يوفر إمكانيات تواصلية، لكي يكون التركيز على التجربة السيميولوجية، وتعاملها معه على اعتباره نسقاً تواصلياً وإيحائياً، فعندما تكون الصورة (من جملة صور قديمة يفرزها بارت) باهتة المعالم، فالخطاب البصري يساعد الناظر إليها، في كيفية استخلاص لغة الجسد (عند الصبيين أم بارت وأخويها) التي تركز الصورة فيها على استشفاف  حالات تعبيرية موغلة في التفرد والخصوصية (تفسرها السيرة الذاتية لبارت وحدها) في أشكال الوضعة والاستخدام الاستعاري لليدين (ام بارت) ودلالات النظرة (خاصة في الوضعة الأمامية لأم بارت) وشكل الوقوف، ونمط اللباس والنحافة البادية على جسدها، والشحوب الذي يملأ الصورة كأنه الشتاء ! لماذا أختار بارت هذا البعد البصري ؟ كأنه يسرد قصة طالما كررها في يوميات الحداد الربط الناستالوجي بين ماضي أمه المأساوي وبين العالم بعدها، بعد تحولها إلى جزء من بنية خطاب بصري، هو يبتدئ: مضيت هكذا في البيت الذي توفيت فيه (أمه هنرييت بينجر عام 1977) لتوها، ناظراً إلى صور أمي تحت ضوء المصباح واحدة تلو أخرى صاعداً مع الزمن رويداً رويداً، باحثاً عن حقيقة الوجه الذي أحببت، ولقد اكتشف هذا الاستهلال أو المقدمة المنفصلة عن الصورة التي هي في الأساس الزمن الديمومي البرجسوني أو الباشلاري الذي قال عنه ريكور: إن حنه أربدت وصفته كونه سرداً لمكان هو في النظام البروكسيمي سلوكاً بروكسيمياً، يأتلف مع الصورة اللفظية (الكلام) الذي استحضر الصورة البصرية في حديقة الشتاء، الارتباط بين السيرة الذاتية لبارت، وبين صورة (حديقة الشتاء) هي إن الصورة هنا هي واقعة بصرية تدرك في فضاء التشكيل اللغوي، لكنها تنفصل عن معالم ذلك التشكيل إلى صورة إشهارية، في الخطاب الإشهاري الذي قام رولان بارت بنزع دلالاته التعبيرية في اللفظي، وإلباسه بعداً استعاريا في الصورة التي تمسكت بقدرتها على الإحالة اللسانية..

عرض مقالات: