اخر الاخبار

إذا كانت الجهة هي طرف الامتداد بين الموجودات، فأن الطرف في قصائد مجموعة (الفراشة والعكاز) للشاعر حسب الشيخ جعفر يبدأ من لحظة حدوث انعطافة ما تلامس الفضاءات السحرية للتخييل، وتعد ميزة مهمة في السياق النصي بما تمنحه من إمكانات إضافية من شأنها استدعاء المساحات الشعرية الكائنة خارج النص، على صورة شيء متصور بوسعه أن يستنطق الممكن واللا متجلي، بمعونة مخيلة شعرية خبيرة ببدائع الصنعة وفريدة في ملعب الشعر. وبالنتيجة فأن الشاعر يمسك بأطراف عالمين في أن واحد، فهو من جهة يدفع النص إلى تجاوز الحدود التي يصنعها، ثم يستكمل من جهة أخرى اشتغالا يظهر الشعر بصورة القصيدة التي تشطر نفسها، ومن شأن ذلك أن يؤسس الاتصال بوجهة زمنية تنزع إلى الانفتاح مما يؤمن نمطا متحولا عن سياق القصيدة ذاتها، بمعنى أن القصيدة يعاد تشكيلها في هيئة أخرى، وينشأ عن ذلك تحرير القصيدة من بيئة معنى ما، وإطلاقها في بيئة معنی آخر على النحو الذي يبيح للشاعر توظيف بلاغية التفات المعني

. وتقويل أخر للبيت الشعري غير ما يقوله ، مما يوفر استمرارا لمديات الممكن في أحضان (المابعد)

آن لحظة حدوث (الانعطافة) التخييلية في شعر حسب الشيخ تعد انقلابا في علاقته مع العالم على أوسع ما فيه من خفاء، وتبعا لذلك يعصف بنا الأفتنان لمقدرته في استدعاء ظلال الكائنات وأرواحها وأشباحها، وما ينجم عن ذلك من انفعالات جسدية عسيرة على الرصد مردها استدعاء ما ليس كائنا، ولعله فعل ابتکاري غير مسمى إيذانا بتغير المشهد الشعري بأكمله، والذي لا يوكل إلى عرف زمني بعينه، حيث كل الأشياء تتمثل إلى ممكن

شعري وهي خاصية من خاصيات العرض الشعري لدى الشاعر (حسب) غرضها تغيير اتجاه الأداء الشعري بما هو أبعد من نطاق المستقر والمتوازن، لخلق الدهشة النادرة في الشعر، التي تقوم على افتراض يقترن بوظيفة استبدلالية، بموجب انفصال القصد إلى قصد اخر والمرور من بؤرة شعرية إلى سواها، الأمر الذي يتطلب قدرا من الأداء المتضارب، والسير بالقصيدة في تشعبات الطريق الواحد، وهو نوع من اللعب الشعري المتنوع الأغراض، الذي يشتغل على انساق التأثير لا الإقناع، ويتمخض عن فاعلية (الانعطافة) الشعرية التي يمكن اعتبارها لمحو انتقالية تمهد لتشكيل وجود آخر للنص تقترح على الدوام حضوراً مفترضاً لأشياء لا تدرك أبدا، أنها لذة الشعر المتولدة عن تطابق الجنون والعقل، وما ينجم عن ذلك من تخییل زاخر ببني إزاحية فريدة، أن دلالة هذه الانعطافة تشتمل على تنويعات شعرية مختلفة، تبتدع مسارات أخر للنصوص وتجعلها تقول ما لا تقوله كاشفة عن الوجه المستور لمعنى ودلالة ما، لدرجة ان القصيدة تخرج عن نفسها قاصدة أعلى مراتب التخييل. أن القصائد لا تتدارك ذاتها لتكتمل بل لتنقسم :

عندما أيقظتني الزوابع مرعدة، ممطرة

كنت في الحافلة

عائد مثلما اعتدت بعد انقضاء النهار

إلى البيت في الحافلة

ثم ينعطف النص بمهارة عالية عن امتداده الدلالى ليأخذ مسارا آخر في اتجاه لحظة الانعطافة التخييلية:

إنما الحافلة

لم تكن في المدينة

 أو في تخوم المدينة او مداخلها المقفرة

مرهقا كنت والحافلة

في عراء من الأرض

 تجري إلى غير ما جهة

متزعزعة الجنب

 مظلمة غافلة

بينما الراكبون يغطون في

 نوم ثقيل

 قلت: (اسال سائقها، ونضيء الدليل!)

غير اني اصطدمت به نائما

واذا ما أدركنا أن (المنعطف التخييلي) هو عبارة من حالة استبدالية مشغولة بطائفة من اللعب الشعري، فإنه في ذات الوقت ينطوي على ميزة أدائية تبيح للشاعر إجادة الخلق الأسطوري بصيغة دالحلم الذي تنجبه اليقظة، ونتبين من ذلك أن الشعر هو الرحم الخالق للأسطورة وهو على هذا النحو لا يعمل على توظيفها وإنما على خلقها:

صدى السماور والتقت بين الزوايا

خيم العناكب في الدخان الرخو كالغبش البليد

وتخلل المقهى البلى، واحدودب الساقي الوحيد

واستوحشت في ضوئه الخابي المرايا

وخبت باخيله لها،

وتبدال المتعهدون

وطوى الردي صحفة

وما انفك الضيوف

يتداولون الرأي في أنبائها، ويخففون

 شاي الظهيرة في اختصام

صدى السماور، والتقت عاما فعام

حيم العناكب في الجيوب وفي الحنايا

إن ما يرثه الشاعر من الميثولوجي الشعبي مرتبط بإرث (الطفولة القروية) وهو إرث لا يجهل كل ما يسمح به الطيفي أو ما يضمره من صيغ إدهاشية في الإيصال، إنه ضرب من ضروب التخييل البدئي الذي مكث في عالم الطفولة وسبت إلى أدوار لاحقة من تجربة الشاعر مثلما تحولت مشاهد الضباب والثلوج إلى إشارات زمنية لغربته، ففي مذكراته (الخطوة الأولى) يروي الشاعر حسب الشيخ جعفر عن والده مشاهداته حول كائن (السيبة) فيقول (في الليالي المقمرة كان يراها في منتصف الليل مترصدة بعيدة، منتظرة غروب القمر البدر، وقد يحس بها قريبة منه، ويشم أنفاسها اللاهبة، غير أنه لم يكن يراها) إلا شبح. فلا غرابة إذن في أن ينشعب السياق النصي في نقطة ما تمهيدا لانعطافة المعني باتجاه التخييل، ذلك أن المتحقق في المشهد الاستهلالي لكل قصيدة يعبر عن الإنتاج التحتي لعملية التخييل التي تجري بموجب عملية تحویل بنية السياق النصي بأكمله، إن السمة الإشكالية لعملية التحويل تتبدد حالما تستكمل هذه العملية كامل مبرراتها المتمثلة بإظهار بنية دلالية عميقة، ولكن على افتراض إن العميق يعادل العالى تماما، عند ذالك تكون الأرواح العائدة من الموت هي الأكثر جدارة في تحولاتها الطيفية من الأرواح الحية، كل ذلك يجري من دون أن يحدث خللا في السياق النصي الذي يتصاعد بخط متنام، ناقلا الشفرة السرية لما انقضى من الماضي لحاضر النص وتجسداته التخييلية، لدرجة أن قيمة الفعل الشعري تتأكد في المشاهد غير الموثوق بها واللا يقينية التي تفترض ترددا في الحكم على ما تطرحه من معنی ودلالة في ظل اسطرة الواقع حيث يسمعنا الشاعر أغنية بصوت شبح من أشباحه الهائمة:

تلك أغنية

 يتغنى بها ثمل

 تستحث أصابعه الاوكرديون تحت انهمار الثلوج

وقد انتصف الليل،

 وانطفأ الضوء في أي نافذة

وتضبب في الدرب تحت الثلوج

فأكافئه باشتعالة نافذتي

وارتياح

عرض مقالات: