اخر الاخبار

 ليس الشعر بالنسبة لي عملاً أكاديمياً، ووفقا لما درسناه تجري كتابته.. وهكذا هو عندي كالمنحدر المرعب، بمجرد أن أدخله يصبح من الصعب الخروج منه.

كثيراً ما أعاني كشاعرة علاقة مربكة مع (المفهوم) لأنني متعودة على أن أتشرب الغموض المفتوح على تفسيرات واضحة وعديدة، أسحب المشاهد من عمقي.. عمقها وأمزجها مع المعاني التي تبدو عادة صامتة وضبابية.. بل وصادمة أحيانا.. لتتشكل الروابط التي لم يتم ادراكها من قبل.. 

الشعر أن أكتب الأحاديث لا أن أظهر فيها وحين أضطر لذلك فإنما أحاول أن أطرح مأساة أو قضية تساعد المتلقي على فهم عوالم النساء من حوله.

الشعر عندي انتهاك ولا أظن أن القصائد التي تكتبها المرأة عن نزعتها الظاهرة ببدائل حسية ذاتية مثل الخيالات الافتراضية والتي -لا وجود لها في أرض الواقع- هي بذات الدقة والوضوح في لفت الانتباه الذي نجده في تفاصيل الحدود المحيطة بها عبر الالتحام معها والارتباط لدرجة غيابها من العمق وظهورها على السطح..

هنا ستكون الكتابة بعيدة عن الزيف وتسدّ الفجوة أو المسافة التي بالضرورة لا تستطيع المرأة تخطيها بسهولة، بسبب المجتمع الذي اعتاد وصفها بأنها كانت انتهاكاً. لقد صار لهذا الانتهاك القدرة على التطابق بكامل عنفه المشتهى، وكأنه يخالف التدنيس المتمثل بالتهميش.

لديّ إحساس بأن الانتهاك عند الكتابة يجعلني منقسمة بين الحياة والموت، مشغولة بتكرارهما وكأنني خارج المنظومة المجتمعية. هذه المنظومة التي كانت - تقدم الصلوات والقرابين إلى الآلهة الإناث قبل إحداث تغييرات في المعتقدات والرموز الدينية - ليمضي هذا المجتمع بعد تدمير الأصل نحو المرأة المغلقة.

ولكن، من شأن المرأة المغلقة أن تنتهك التابو وتفعل دائما ما تفعله داخل العقل، وإنّ كانت صامتة. لا أقول إن كل قصائد المرأة الشعرية تنتهك تماماً، وإنما تلك “التجارب السرية” والتي من المتعذّر البوح به، إذ تكتشف أنها مرتبطة بالتدنيس أو ربما - بمصائد الحركات الاجتماعية اللا إرادية، والمخالفة والعقوبة وحق الرجال بالسهر على عفة النساء- وهذا يلخص حقيقة الصعوبة التي تواجه الشاعرة.

أحيانا كثيرة تتردد في الكتابة عن تجربتها الخاصة لأن القارئ قد تعَوّد سلفاً على وفق المجتمع النظر إليها بوصفها جسداً ميتاً أو مغلقاً، بينما القصيدة قد لا تتمثل إلا بحضورها الغائب الذي يفتح فجوة في المغلق للتسرب منه بلا نهاية.

هنا، ندرك الانتهاك الذي قد ترتكبه المرأة عبر قصائدها الشعرية -الموت، الحياة- في مجتمع ميزته الأساس تكمن في خصوصية علاقته بالمقلق أو المغدور الذي يرفض الموت أو الحياة.

لقد صار الانتهاك هو المنظومة المجتمعية الاكثر حضوراً وخصوصية، إنه كينونة المرأة المغلقة وانعدامها، رغم سوء الفهم.

لنعرف إذاً، لماذا ترتبط القصيدة مباشرة بحياتها وبتصورات القراء والمتلقين واستيعابها كاعترافات حقيقية. فكثيرا ما تكون المرأة بالنسبة للمجتمع الأكثر برودة وشراسة وغرابة مجردة من حقيقتها - من أناها. ومن ذلك مثلاً:

 مسافة من وحل ومعدن

 بركة موحلة بأعقاب السجائر.. هو المطر

المتساقط، دائما، حينما أفكّر بهيكل قدمي الصناعية.

ماذا هناك لأخشاه؟

قدم ذكية.. تتوق فحسب لمراقبة

توازني، لمركز الثقل.. حيث المزيد من شهقات

العيون الغارقة في الظلام.

في نظركَ كانت الشوارع بركة موحلة.

فالسيَّارات التي تخلت عن سرعتها واحدة تلو الأخرى

غطست في لجّة الوحل.. بينما أنا في سباق

يدفعني رذاذ الغياب.. بعيداً عن نفسي.

خليط غريب من المعدن، والمياه.. والندم المتأخّر كما دائماً،

حتى أقدامي التي لم أشاهدها من قبل

تحتفي هكذا بالمطر.. كان لها توقفات بفواصل

كثيرة، وبلا توقعات لوجود خطر ما، أو علامات استرشاد.

الشوارع بدت طويلة.. لقد كانت تدور.. وتدور

بدوامات تلوِّح من سيىء إلى أسوأ بينما الأصوات

مستمرة بتهميش ذاكرة تطلق النار خائفة.. تتلفّت يمينا

ويسارا، مثل منارة عجوز مهمتها الوحيدة.. اختزال

الوجود بإشارات ضوئية.. مكرّرة.

التحكم بوجودك العالق أو بخطوات قدمك

الصناعية عادة هجرها الذين نجو من المحرقة

أقصد من ثغرها الطافح بالسأم.. الغرق

جرِّبْ فقط.. أن تربط حجارة بقدمي هذه الآن

ستكتشف المزيد من الأميال الرمادية كانت

تتوالد بيننا.. أكثر ممّا اعتدتَ.

المطر الذي لا يأبه بأن تشهق بألم الأحذية

اللامعة.. إنّي أراها الآن سفينة تغرق

وتلتمع أعقاب السجائر خلفها.. تطفو.. مثل جثث

الحالمين بضفاف وشمس.

عرض مقالات: