اخر الاخبار

 الحنين هو الإستعاضة بالإستشراق بشمس الغياب وتعمد استغراب أقمار الحاضر.

ومن يحنون للأمس، تراهم يدربون الحاضر على إحترام الماضي الأصيل.. وعندئذ

تتسع  صدورهم لرفع قبعة العرفان لأمسهم.. ولا يشعرون بعار لتسترهم بعباءة النكران ليومهم.

من يحن للماضي حسب، يبخس قيمة يومه، ويقايض غده الأثمن بلحظات أمسه الضائعة.

 من يحن للسابق، يفرط في التعلق بالأبيض والأسود وله بالشفاف عشق خاص للباستيل.

الحنين شخص يبدو له الأمس أكثر وقارا وهيبة من يومه السلس.

الحنين يحول الفرد لشخص نوستالجي له نفس تجافي التجاوب مع المتاح، فشغفه في المُحال.

إنهم شخصيات تنشب معركة مع النسيان في محراب الخيال، لنصرة جيش الذكريات.

الشخص النوستالجي يكترث بالإفتراضي المُرَمَم بسحر أتربة زماااااااااااااااااان.

من يحيا في إقليم الحنين يبتر جغرافيته لترقيع تاريخه.

من سمات الشخصية النوستالجية أنها تفضل إقالة لوحة للفنان الشهير”فابيان بيريز” شغفًا بوضع برواز عتيق، مخدوش لصورة فوتوغرافية ممزقة لا ألق فيها، لكونها مُظَهّرة بحروف، بخط انسان أغلى من القلب.

الشخصيات التي تميل بالفطرة للحنين لا تستهدف النجاح ولا تحارب لمنصب أو ثروة .. فهي تتحقق مع العبث في حقول حلم يقظة شفاف أو بجانب مصرف رومانسي يعلمون أن أرصدته مكشوفة وحساباته وهمية .. بل إن بعضهم يتعايش  روحياً مع الهيامات الفكرية .. كما تراهم يسعفون لحظة ماتت، لإحيائها برفع ذكراها، للقبض على جمر الرحيل أو لملامسة نسيم غوالي مروا بأزقة الحياة.

الحنين يجعلك تجنح لحانة الذكريات لإرتكاب جنحة إدمان كؤوس خمر “الأمس” المعتق.

النوستالجي تراه يهيم بمجالسة المسنين والحديث عن الراحلين، على أنه لا يكترث بزيارة الأضرحة.

أهل الحنين يتعاملون مع التذكار كبقع مقدسة، يتباركون بها في هيامات العمر.

اصحاب القلوب التي تحن للأمس لا يرتوون إلا من مٌقل بات ماؤها يقرع الخدود حتى صارت أخاديد، أسفًا على البعاد.

أهل الحنين يولمون لباقات الذكريات ويستدعون حُلم خطوته عزيزة، ويقسمون عليه أن تالله لتزورن عتبات أذهاننا، لتشريف حفل الشرود.

إلهامٌ ما، يدفع النوستالجيين لتحمل جهنم واقعهم، أملًا في تدشين احتفالية لذكرى الغد بإستخدام “السيلفي” مع أسلافهم وأخلافهم، أما النوستالجي المخضرم فلا يحتاج “لسيلفي” فقد سرق الحدث من الدهر، وحجية الحدث بحافظة فكره.

من يتملكه الحنين يعيش السكرة أكثر مما يتعايش مع الفكرة، إذ لابد من اختمار التجربة، لكنه لا يعاقر الخمر ولو كان حلاً له، فهو بحاجة لليقظة لحفظ مقتنياته وصَفِّها بخانات الذكريات.

يعيش من يحن للماضي في محنة دائمة مع واقعه، فهو يتعاطى مع هذا الواقع، كما مع زرابيّه من البُسط، فكما السجاد تزداد قيمته كلما دهسته الأقدام، كذلك ترتقي قيمة إحداثياتهم اليومية بمرور الدهر.

أهل الحنين لا يضعون أرصدتهم من أحداثيات يومهم في حساباتهم الجارية، بل في يحفظونها في التوفير، ذاك الذي سيسحبون منه حتى آخر ذكريات العمر.

يسقط الإنسان العادي خانات الذكريات ويرميها في هوامش الماضى بإعتبارها قشور دنيانا، فيما يدرك النوستالجي أن جُلّ الفيتامينات في القشور، وأن الدلالات الجوهرية تدون على الهامش.

إنهم أقوام يجدون السلوى في تذكار الأنين المنصرم، لإجترار التلذذ بذكرى العناية الفائقة المُهداة لسُعالِهم في الصِغر، عدا أنهم على وعي تام بقيمة بكارة مشاعرهم الشابة، فتراهم كما أشار ديستويفسكي يثمنون أخطاءهم الطازجة، عن صوابيات كهولتهم المحفوظة.

النوستالجيي يسير بجانب حائط السراب، ظمًأ كشَربة مستخرجة من أبار سَبتِه، احآده وجُمعه، ثم يقوم بتصفية الأبار لإنتقاء أعذب اللحيظات، لإدخارها بحويصلة خيالاته لتدفئته بشتاء العمر. فقد يثمن النوستالجي جنيهًا ذهبيًا مصكوكاً عليه صورة الملك فاروق، مُهدى له من جدته، ليعلو على ماسة اشتراها من حَلَالِه.

النوستالجيون يتعلقون كالثكالى ببصمات الراحلين على زجاج النوافذ، بين دفاتر الأمس أو على القيثارة العتيقة.

أهل الحنين يستميتون في نفخ الجمر المبتل، أملًا في إعادة إشعال قلوب فترت مشاعرها، لذا يتفهمون رغبة عجوز في مقايضة بما فيها من مصاغ مُعسجد، مقابل استعادة طيف لمسة يٍد أَهدتها مشاعر حانية.

النوستالجييون يفتقرون لمهارات الشخصيات العملية، فيتحرجون من إنهاء محادثة هاتفية، بل يمنحون محدثهم أبعاد رباعية في الإهتمام واظهارالشغف، وحتى لو انتهت المكالمة، يعاودون رفع السماعة، لربما هنالك -عبر الأثير- بقايا من صدى صوت محدثهم .. على أنهم  بعد تعاملهم وتعلمهم الدرس من الشخصيات العملية باتوا يفكرون كثيرا قبل أن يقولوا الف شكر، فتراهم يدربون ألسنتهم لإنهاء المكالمة بـ شكراً واحدة.

ولأهل الحنين شوق لطهارة أحلامهم قبل بلوغهم الحُلُم، كما أنهم يقدسون أيقونة مرسوم فيها صورة “هناء” يوم عُقد قرانها على “وحيد” ، عدا أنهم لا ينامون قبل تناول جُرعاتهم الليلية من “الشرود” كدوز من الدواء.

الحَنين قائد طاغية، أو راعي غير صالح، يجر خلفه قطعان من النوستالجيين.

أهل الحنين يعطرون وسائدهم “بشانيل 5”، لا عشقاً في العطر، بل لكونه تذكار ممن ارتدوه... كما أن لديهم عادة إلقاء رؤوسهم للخلف، لومضة طرقت بالهم عن ذنبهم الأول المدون بصحيفة مراهقتهم، ذاك الذي لا يريدون التكفير عنه ولا معاودته، فهو إثم نحيف، ثم أنه لن يحلو لهم معاودة ارتكابه فرحتهم الأولى نفسها بأخطاء البدايات.

لأهل الحنين أنين شجي يربك مقامهم في الأوبرا، فيخالون أنهم يستمعون لسيمفونية “رقصة جنية السكر” لتشياكوفسكي بمقام الصبا الحزين، وينصتون “لمتابعة شهرزاد” لكورساكوف، بمقام الكرد، ثم يجلسون في ستاربوكس، فيتماهي “الجاز” بمقام الحجاز وحتى “فور اليزا” يسمعونها معزوفة بثلاث او اريع تون، بمقام الرست. وحتى لحن “ القلب يعشق كل جميل” وهو من مقام الحجاز، يسمعونه بمقام “الدو ماجور” الغربي .. يبدو أن نصفهم الغربي يَحُن لنصفهم الشرقي، ليتكامل عالمهم.

لأهل الحنين جمرة في الذاكرة، يؤججها الرحيل ولا يخمدها رماد  ويطفئها الشنآن.

الحنين هو نزهة في مروج الذاكرة وسياحة بين مدن الذكريات.

إنه سطوة الماضي المستحيل على عجرفة الحاضرالممكن.

إنه مادة تحصين نحقن بها واقعنا، لوقاية جزء مختار لأثارنا من الطمس.

فالحنين هو إسقاط قرار حكم الإعدام من قانون الذكريات.

ــــــــــــــــــ

داليا الحديدي  كاتبة مصرية

عرض مقالات: