اخر الاخبار

استطاعت  المقاربة البلاغية اليوم أن تبرز قيمتها المُتَفَرِّدَة في تحليل الخطابات بشتى أنواعها الإجناسية أو النوعية، وذلك لما تتوفر عليه من تقنيات وميكانيزمات علمية، سهلت عليها ولوج عوالم النصوص التداولية منها والأدبية، فأصبح الحكم على الخطابات بأنها مقنعة بغرضها  أو ببعدها الحجاجي أمرا مُيَسَّرا، تَعَمَّقَ فيه الدرس البلاغي الجديد، وهذا بفضل الأبحاث والكتابات الدقيقة غربيا وعربيا داخل هذا الحقل الممتع، المتطور باستمرار و الذي يتلون بحسب مقامات الخطاب وقوانين الأنواع الأدبية التي ما فتئت تنفلت معها نظرية الأجناس الأدبية وتتداخل فيها بشكل واضح وجلي، لتغذو ما أسماها شاييم بيرلمان Chaim Perelman بالبلاغة الجديدة: مفتاحا ضروريا لمواكبتها ومتابعتها بالتهذيب والتشذيب النقدي المُفْتَرَض.

ذلك أن البلاغة اليوم تؤمن أن القوانين المميزة لكل نمط خطابي أو نوع أدبي هي أدوات بلاغته المؤثرة في المتلقي، وهو ما يصبو إليه التحليل البلاغي الجديد، أي أن المحلل البلاغي اليوم مدعو للإمساك بالآليات والتقنيات والحجج والوسائل.. التي أَثَّر بها المتكلم / المؤلف / الخطيب...في قارئه.

وهذا لا يعني البحث عن المحسنات البديعية والصور الأسلوبية داخل النصوص وتصنيفها ضمن قوائم جامدة جاهزة مسبقا، ثم الاستدلال بها على بلاغة الخطيب - كما قيل عن جورجياس Gorgias، الذي كان يحسن الصنعة والأسلوب، الشيء الذي جعل الناس تهتم بأسلوبه أكثر من حججه في الزمن الغابر، فتم  بالتالي الاعتداء على مسار البلاغة، لتقبع في الصور الأسلوبية الشكلية منذئذ - بل على العكس من ذلك، ولعلها الحسنة الأكثر أهمية التي جاء بها بيرلمان ببلاغته الجديدة، هو إعلانها الحرب على التزيين الأسلوبي بتجلياته  اللفظية والشكلية، وجعله عنصرا ذو وظيفة أهم، تتجلى في اعتباره خادما للتأثير الإقناعي ببعديه الحجاجي والتخييلي، لأن الإقناع داخل النصوص يكون منطقيا، أخلاقيا، وأيضا عاطفيا، والمتكلم - وليكون مؤثرا ومقنعا -  يوظف الاستراتيجيات  الحجاجية والتطبيقية التي ضَمَّنَها أرسطو كِتابَيْه: "فن الخطابة" و"فن الشعر"، و المحددة في الثلاثي المعروف بالإيتوس واللوغوس والباتوس Ethos – Logos – Pathos .

 إن المقصود باللوغوس Logos  هو ممارسة العقل في الحجاج، عن طريق توظيف الاتفاق المسبق والتقنيات الحجاجية التي أوردها بيرلمان في خطاطته الشهيرة، والتي يمكن استجلاؤها من الخطابات، سواء أكان النص تداوليا في كليته أو في مقاطع تَضُمُّها النصوص الأدبية التخييلية كالرواية مثلا.

في حين أن الإقناع بالإيتوس  Ethos  فيتم فيه العودة لحظوة الخطيب وسلطته التأثيرية، أي إلى الصورة التي بناها المتكلم عن نفسه ضمن طيات الخطاب، والتي أرخ لها أرسطو في ثلاث مظاهر كشفتها روث أموسي Ruth Amossy    بقولها " ولابد للخطيب أن يتحلى بثلاث خصال كيما يحدث الإقناع، لأنه يصرف النظر عن البراهين، فإن الأمور التي تؤدي إلى الإقناع ثلاثة، وهذه الخصال هي: اللب..والفضيلة..والبر.."، واللب قد نرادفه للسداد.

غير أن ما يمكن الإشارة إليه هو أن إيتوس الخطيب يتشكل وفق الإطار النوعي للخطاب الذي يحتضنه، وفي هذا الصدد يقول الباحث محمد مشبال "أن صفات الخطيب أو مظاهر الإيتوس تصبح غير محددة، بل هي وليدة المقامات وأنواع الخطاب" .

أما فيما يخص الباتوس Pathos، فينبغي التنبيه أولا إلى أنه مقولة حجاجية وليس مفهوما سيكولوجيا، لأن أرسطو اهتم ببيان الجانب الذي يهمه منها باعتبارها "وسائل الاقناع، يركز فقط على جانبها الحجاجي" ، أي الحالة التي يصبح عليها المتلقون بما يثيره الخطاب فيهم وفي انفعالاتهم وردة فعلهم الوجدانية. لذلك فالمحلل البلاغي عليه طرح السؤال: كيف بنى المتكلم/ الخطيب "الأهواء والانفعالات" في خطابه؟ ثم البحث عن المؤشرات والأدوات المؤثرة في الأفعال العاطفية للمتلقين، بما في ذلك المواضع، أي المُسَلَمات التي يحددها موضوع الخطاب من قيم إيديولوجية واختيارات فكرية واجتماعية...

الرهان المعول على البلاغة اليوم، بمنظورها الجديد، لا يعود إليها في حد ذاتها، لأنها منذ وجدت كعلم كانت شاملة ومتطورة بغاياتها ومقاصدها، والدليل على ذلك هو أن قراءة بيرلمان الجديدة لها،  قد أفرزت بعدها الحجاجي، بعدما جعلها مرادفا للخطابة، في حين أن الباحث عبد الرحيم وهابي   قد بَيَّنَ في أطروحته بأن بلاغة أرسطو قد تضمنت جناحين، أحدهما تخييلي مَثَّلَهُ كتاب "فن الشعر"، والآخر حجاجي مَثَّلَهُ  كتاب "فن الخطابة"، وكلاهما طبعا تاريخ البلاغة العربية: فهذا قدامة بن جعفر قد تأثر بفن الشعر وذاك الجاحظ الذي تأثر بالخطابة، وهناك من مزج بينهما من قبيل الجرجاني الذي خص أسرار البلاغة للتخييل، وجعل دلائل الإعجاز للتداول...

 إنما الإشكال الذي ينبغي أن تتطرق له المقاربة البلاغية اليوم، يكمن في مدى قدرتها على استجلاء الميكانيزمات النصية الجديدة والمتغيرة مع كل نوع خطابي بعينه، والتي أكيد أنها قد تجاوزت الأنماط الخطابية التي حددها أرسطو في زمانه، بفعل التطور التي تعرفه الانتاجات الأدبية وغير الأدبية، والتي في نظرنا هي الأخرى تروم الإقناع والتأثير في المتلقي بطريقة أو بأخرى. فالمتأمل للمشهد البلاغي المعاصر داخل الساحة النقدية، يجد بأنها أخذت على عاتقها نفس الرهان، مما أفضى إلى إنتاج قراءات متعددة لكتب أرسطو - بحكم مركزيته في إنتاج الخطاب – وتأويلها بما يناسب الحاضر، مع أن الواقع العَصِي، يفرض إنتاج وتحليل خطابات جديدة، قد لا تكون أدبية بالمرة، لكنها بليغة، في مثل الخطاب السياسي الذي يقود تحليل مقولاته البلاغية حاليا، إلى معرفة مكنوناته الإيديولوجية المؤثرة في إدارة شؤون شعب مستقبلا...

المراجع المعتمدة

  1. Ruth Amossy. La présentation de soi. Op. Cit. P182 
  2. في بلاغة الحجاج" نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطابات، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، ط. 2018، ص. 184
  3. الحسين بنو هاشم، بلاغة الحجاج الأصول اليونانية، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط. 214، ص. 308
  4. القراءة العربية لكتاب فن الشعر، عبد الرحيم وهابي، ط. 2011
عرض مقالات: