اخر الاخبار

يمر الزمن الانتكاسي ثقيلاً، وتعود علينا كل عام في يوم 23 آب حادثة اغتيال كامل شياع (1954 - 2008)، التي رسمت انطفاء حياة هذا الإنسان والمناضل والمثقف الحداثوي، بوصفها واحدة من الخسارات الحارقة التي اكتوى بها جسد العراق، وتركت ندباً في تاريخه، ندباً سوداء محفورة بكواتم الغل من وراء اللثام، محملة بآلام الفقد والمواجع التي تفت القلب وتقطع نياطه. لقد واجه هذا الإنسان (الكامل) نوائب الأمس الغابر الذي لا يريد أن يفارقنا، حين ترك العراق وغادر الى المنفى في الزمن المرير، تفادياً من بطش النظام الديكتاتوري، عاش في الغربة القسرية، ورجع الى البلد بعد سنين من الاغتراب، عاد بإرادة واعية، وهو أعمق إنسانية، وأكثر امتلاءً معرفياً، وأزيد نزوعاً نحو الأحلام، ولكنه جاء في الزمن الأشد مرارة الذي لا يرحم، حيث يسعى الموت بأيادي الغدر من كل الاتجاهات نحو الناس الطيبين.

عاد هذا المناضل مجسداً في هذا الفعل والإرادة مصداقية الارتباط بالجذور، عاد حاملاً على كتفيه مشقة التصدي لمهام النهوض بالثقافة العراقية (عمل مستشاراً في وزارة الثقافة بعد سنة 2003 حتى استشهاده)، مثلما راح ينوء بأعباء المشروع التنويري الذي يثري العقول، فحاول أن يشق قلب الظلام الدامس الذي ينوي أن يخيم على سماء العراق، ولم يتردد في ركوب طريق المخاطر مغامراً، متشبثاً بالأمل، مدركاً بأن لا شيء يعادل الوطن.. الوطن الحلم الأم الرحم الحضن الدافيء والملاذ الأول، ولكن القدر أراد في آوابه أن يكون الوطن ملاذه الأخير. أية مفارقة مؤلمة هذه التي كانت في انتظار هذا الصديق النبيل، رحلة من مدن الاضواء في المنفى نحو الوطن، تتحول في آخر المطاف الى رحلة نحو المنفى الأبدي، تبدت بنهاية الارتماء في حضن الأرض.

كامل مثقف من طراز خاص.. باحث موسوعي مثابر.. ومفكر نقدي لامع، وتكفيك جلسة واحدة معه لكي يأخذك الى ميادين الثقافة، ثم يجول بك في مضمار الفلسفة، لتكتشف أن كل هذا الرقي المتجسد فيه منعكس على سلوكه الشخصي ونشاطه الذهني، وتتعرف على طبيعة المنظور الذي يهجس بواسطته الرؤى والرؤيا، وتلمس الالمام الكبير والثقافة الواسعة في مختلف مجالات المعرفة، فقد شرّق وغرّب في مضان الدراسات العليا، يتقصى بين خزائن الكتب، وأفنى سنوات مديده من عمره، مسكوناً بشغف الحلم الإنساني، يبحث عن (اليوتوبيا) في مسارب المخيال الثقافي، هذا المشروع الفكري الذي استوعب أهميته، لكونه ينطوي على بلورة التشابك بين الواقع المعيش والأحلام، وتبدى انهمامه في تعقب كل ما هو ايجابي، وتوقف عند المفهوم والمعاني والمداليل، فراح بمهارة فائقة يسأل ويسأل.. يكشف ويؤول.. يحاور ويقارب. يحفر بتأن منقباً عن سياقاته في منظومة الفكر الإنساني، وعلى وجه الخصوص في نتاجات الفكر الغربي الحديث والمعاصر.

عاش كامل شياع متمسكاً بدوره كمثقف ملتزم، يتفكر في الواقع (الأيديولوجيا/ اليوم)، مثلما أنهمك في تأمل المتخيل (اليوتوبيا/ الغد)، شغوفاً بالتطلع الى حياة أفضل في مدينة أفضل، وانشغل بصبر في التعاطي معها، حيث ظل محلقاً في سماء الأفكار، ومضى من دون أن ترتبك نظرته الاستشرافية الى عمق المستقبل، يدرك طبيعة العلاقة القائمة بين (الأيديولوجيا/ المكان) وبين (اليوتوبيا/ اللامكان)، ولم تثنه مزاعم الانفصال في ما يتناثر من تنظيرات عن مرامي مسيرته الفكرية المنطوية على كيفية ادراك أن التصورات الخيالية تدفع الى التأمل، وتؤسس الى نقد الواقع، وتكون مهمازاً في التبصر الفكري لإنتاج أفضل الرؤى التي تسهم في اثراء الحقائق الماثلة على أرض الواقع، بغية تحقيق الانموذج الأمثل القادم، وإنجاز الطموحات المستقبلية.

تنطوي وجهة كامل شياع الفكرية الأشد تعلقاً بالمدينة الفاضلة على أن الإنسان هو المسعى والهدف، وانطلاقاً من هذا الخيار المبدئي والموقف المعرفي قدم الراحل رؤية تعتني برسم الحدود بين كل من الأيديولوجيا واليوتوبيا.. من هنا يمكننا أن نلاحظ الفوارق البائنة عما هو متداول على نحو تقليدي، بين أن نقوم بالتمييز بين نقد الواقع وبين تبريره، نشداناً واعياً الى تحريك الفكر النقدي، والسير في دروب التقدم على منوال الأفكار النيرة المحفزة لكل الوسائل الإدراكية باتجاه خلق عالم أفضل، وهو ما يبلور التشبث باستدعاء الحلم اليوتوبي المنشود، لأنه شكل من أشكال التوق الى الحرية، يغدو فيه الإنسان سيد تاريخه كونه القادر على خلقه. وقد يشكك البعض في ظل أزمات الحاضر بأفق مسعانا الذي نرود، حين يضع الرؤيا البعيدة المنال في مصاف الطوباوية، فأقول باطمئنان، وعيوني تهجس أحلام الانسانية على منارات الفلسفة الماركسية، وهي تنشد رحاب الأمل المفتوح على المستقبل، راداً على كل من نضبت فيهم طاقة المخيلة وضاقت فيهم قوة الخيال، وتلبسهم اليأس والاحباط، ينبغي علينا إمعان النظر التأملي نحو اليوتوبيا (الفردوس الأرضي) على أنها فكرة ملهمة في المدارات الممكنة باتجاه تأمين حرية الإنسان وكرامته، لاسيما حين نضع نصب أعيننا شحذ الفكر النقدي، هذه الوجهة البالغة الأهمية التي عني بها المفكر الفذ كامل شياع، وأعطاها الكثير من وقته وجهده، بوصفها المحرك الفعلي في عملية التقدم، وكانت في صميم مشروعه المعرفي متجلية في منجزه (اليوتوبيا معياراً نقدياً). ودعونا في مختتم الحديث، نستعين بمقولة للشاعر الإسباني غارسيا لوركا، التي تمثل درساً بليغ المعاني لكل إنسان يؤمن برسالته التاريخية، ومفادها: (سوف لن نصل، لكننا ذاهبون)، ويبقى هاجسنا في هذه المسيرة، هو تحقيق كل ما يديم حياة الكائن الإنساني على وقع الحرية في عالم يرفل بالسعادة والعدل.

عرض مقالات: