اخر الاخبار

( أما آن لهذهِ الأوجاع القديمةِ

      أن تثمرَ

      ذلكَ أنّهُ ما من هدْأَةٍ

      في أيّ مكان)

يحيلنا مقطع (ريلكه) في افتتاح القصيدة الى تعالق جدلي مع الزمن، على وفق مستوى تجربة الشاعر التاريخية، حيث التأكيد على أوجاع قديمة، وهذه صورة تكشف عن رؤية لزمنٍ ماضٍ خاضهُ الشاعر بمرارة ولوعة. اذ ان الأديب بصورة عامة يمتلك ما لا يملكه الانسان العادي، فحساسيته العالية تجبره احياناً الى التفكير بالهجرة أو الانتحار ! ان لزم الأمر، لكن سعة ذهنيته واستيعابها للأزمات تحول دون ذلك، فتتشاكل النزعات لديه اثر مضايقات السلطة، فيلجأ الى الورقة كي يبوح بخلجاته، التي يرى فيها ترميم لهيكلية ذاته الموجوعة، بعيداً عن قرف السلطة، في محاولة لإيقاد شمعة في طريق حياته المرتبط واقعياً ببلد انهكته الحروب والاعتقالات.

صراع العقل مع العاطفة، صدى يتنامى ويترك اثره على مجمل خلايا الجسد، لا يبصرها سوى شاعر امتلك حسّاً مرهفاً وبعداً انسانياً كبيراً، ورغم كل المنغصات تتنامى موهبته وتزهر في فضاء رحب، ليعيد صياغة الماضي برؤى الحاضر وفق مفهومه الشعري. يفتت أواصر الزمن، ثم يعيد بقصائده هوية ما خطط اليه من ابداع، ليقدم للقارئ صوره الشعرية بأبهى جمال ورقّة رغم معاناته، يكظم غيظه ويصوغ المفردات وما كان حبيس الذهن من تجليات في فترة ما، فتتدفق القصائد مشعّة بما يقصصه علينا عبر جسور لغته المتقنة، بإيحاء شجي منمنم بالمعاني وعذوبة الخيال، يسعى لخلق علاقة وثيقة مع القارئ، فتغدو تجليّاته واضحة في تجسيد المعنى التام.

  ( بمنأىً عمّا يورثهُ الاحتدام

  ويُلقي بنا في أرخبيل متاهة

  فلنمسح أحزاننا)

الشعور بالشعر، الخبرة، الاستغراق، التأمل، وبث روح الأمل، ليس خارجاً بل في النفس البشرية، اذ ان الزمن يتلاشى وتبقى الذكريات، الأمكنة، الشواهد، الرغبة المصاحبة للشاعر في التدوين، هي مرحلة هضم ممزوج بعصارة الروح، تلك الذبالة الذائبة فوق شمعة حياته، المشاعر المبهجة تصاحبه رغم أساه، والنتيجة الغالبة هي عملية الايقاظ لدى المتلقي وبث القدرة لديه في صناعة الجمال، الجمال بالمشاعر، الخلاص من الفجوات والكبوات، فالشعر ليس تسلية وحسب بل هو نوع من التنفيس عن مكنونات الذات، ومعالجة للأذواق في ازاحة ترهلات الحياة ومآسيها، التفاعل مع الطبيعة والحفاظ على جدوى البقاء بحميمية التآصر، من أجل نشر روح التسامح، فالأهداف الاخلاقية للشعر تتجلى بعلاقة الفن بالحياة، وهذا ما يحدث بهجة في النفس، ويمنح المجتمع فسحة كبيرة من الاحساس، لذا فأن دور الشاعر يجب ان يكون اكثر فاعلية، ولا يقتصر على المنصّات وجمهور النخبة، وهذا الانطباع يصب في الحركة الابداعية بصورة عامة. فما قيمة القراءة بدون تفاعل، وما قيمة الشاعر بدون جمهور متفاعل، فالخروج من برج الذات النرجسية هو من يصنع المجد والتاريخ للشاعر الحقيقي، الشاعر الذي يجد نفسه دائماً في تحد مع الزمن، وهي غاية كبرى لديه ليس من اجل اثارة عاطفة أو اشباع ذات وملء فراغ مؤقت، بل في نشر روح التفاؤل واضفاء الانعاش والراحة من الأحزان، وتقديم نمط من الحياة تتسع للسعادة التي نسيها أغلب أفراد المجتمع، اذن الشعر هو أشبه بوصفة طبية نستنبط منها راحة، تقودنا الى صقل انسانيتنا رغم كل المتاعب.

   ( فكم من الأحزانِ عليّ أنْ أُحصي

   وحيرتي صنيعةُ تلكَ الأمجاد)

  ( ضمأٌ أبدي

  يحرصُ على أنْ يتوهجَ سرابهُ

  فوقَ وجهي

 يُعلّمني كيفَ أتهجى أيوبَ

 يُعلّمني

 كيف أشذبُ أشواكَ الوقت

 وأعزفُ على غايةِ حلمي المتعثر

 فكيفَ لا تفتحُ سيرتها للجسد

 وتشاطرهُ بما تملكُ من القرائن

 وهي السؤال الذي يحتفي بالاحتمال

 كيفَ لا

 وأنا جسدٌ مفعمٌ بالحوار

 وفي انتظار ما تسفرُ عنهُ النوايا)

صور شعرية جللتها قصيدة (عسل الكلام) لا تكتفي بكشف المستوى الابداعي لدى الشاعر، بل تخطته الى المعنى المطلق في التسبيح برؤى الجمال، التقاطات حوارية تقترب من جوهر الانسان، تحاكي الوجدان، تلامس العقل والروح، وتكون موجِّهاً لفتح آفاق ورؤى معبّرة عن ذواتنا الانسانية، تشتغل في ميادين الحياة وتدفع بالقارئ نحو رؤيا تفاعلية، ترتبط بوحدة موضوع متكاملة، ما بين الشعر والحياة. الشاعر خضر حسن خلف استطاع ان يقتنص ضجيج لحظات الزمن ويذيبها في مشغله، في محاولة ناجحة لإحداث هزّة نوعية لدى المتلقي، كي يعيش معه لحظات الابداع ومن ثم الانطلاق نحو نزهة الخيال.

   ( وأتماهى على عقدِ السنوات

     ولا شيءَ يهادنُ صمتي

    غير شمسٍ من الخبزِ والترقب

    والقطيع الحزينُ في كلّ ذلك

    ثمرٌ مغبرٌ تؤرجحُهُ الريحُ أنّى تشاء

    فكيفَ لا أصغي لقلبي

   وأبوحُ بنبضهِ الزاحف على الورق).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المقاطع الشعرية بين الأقواس مأخوذة من قصيدة “عسل الكلام”. إحدى قصائد المجموعة الشعرية (جلالة الوقت) للشاعر خضر حسن خلف. ضمن اصدارات اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة عام 2017.

عرض مقالات: