لك الماءُ منطلقاً بالغناء
يسافر في كل جذرٍ..
لك المـاءُ .. إنجيلك المتفـردُ
ينشــئ فيــكَ الهــوى
والجمالَ البهي ،
سميع داوود:
من قصيدة (النهر) 2016
لسميع داوود في الذاكرة موقع فريد متعدد المرائي. لكن مناسبة موته المؤلمة حملتني إلى منتصف السبعينيات، ونحن - خمسة شعراء نعيش أو نعمل في الكوت - نعد ديواناً مشتركاً لم أعد أذكر من ارتآى ان نضع له عنواناً دالاً (نوارس الموجة الآتية) ، وهو غير بعيد عن طبيعة مدينة الكوت المائية، وكونها شبه جزيرة حقيقية، يلتف عندها نهر دجلة مستديرا ليواصل لهاثه للقاء الفرات جنوباً. وحيث تهدر المياه التي تحتجزها سدتها التاريخية، وتبعثها مجدداً في اندفاع يجعل موج الماء أشبه بشلال متواصل التدفق، يلازمه صوت المياه التي لا تجعل زائرها يغمض عينيه حتى يعتاد ذلك الصوت.
من الصدف أن الشعراء الخمسة كلهم كانوا تقدميين من الشيوعيين أو المتجهين في فكرهم يساراً، وهو ما لم تقبله عصابات البعث التي جاءت بانقلابها الدموي عام 1963. فذاق جلّهم الإعتقال أو النفي او السجن. وسميع هو أكثر الخمسة عناءً. فارتسم بوضوح على هيئته التي لم يكن سوى المقربين منه يعرفون أنها لا تدل على تكبر أو استعلاء، بل هي جواب صامت على ذلك العناء الذي لاقاه، وبعض رواسب العزلة وانعكاساتها على شخصيته.
( نوارس الموجة الآتية) صدر عام 1974. كنت في سنتي الأخيرة من عملي مدرساً في إعدادية الكوت. عادل العامل الذي غادرنا وأنا أعد هذا المقال، هو كبير النوارس وشيخها كما أسميناه. وهو الذي تكلف بنشر الكتاب في مطبعة بغدادية. مع عادل كان سميع داود وحميد حسن جعفر وجواد ظاهر وأنا.
شعر سميع لفت نظرنا بما يشتمل على دلالات ورموز وإحالات، جلّها مائية المرجع. وذلك ما رصده مؤرخ النوارس الشاعر حميد حسن جعفر في كتابه( كائنات الوهم - كائنات الشعر. ثقافة الهامش: الكوت نموذجاً) الصادر ببغداد عام 2016.
قليلاً ما كان يلتقينا سميع بسبب عمله. يصمت كثيراً ، وإذ يحكي تسبق جملَه ابتسامةٌ سرعان ما تنسحب، ليتدفق بتؤدة وحكمة تهدئ ضجيجنا وخلافاتنا الشعرية. كان سميع قد هجر الكتابة الشعرية بالعمود، وانتقل إلى القصيدة الحرة مؤمنا بما تحمل من تجدد وتحديث، هما جزء من منظومة أفكاره التي حملها، مثل ( وشم كان على ذراعي اليسار) كما يقول في إحدى قصائده مطلع السبعينيات.
لا تخلو أيٌّ من قصائد سميع من الماء ومفرداته أو مرادفاته ودلالاته. لم نكن حينها نعي أثر النشأة في تكوين الشاعر. كنا نحسب حكمته وصمته واحتفاءه بالماء بعضاً من نضجه السياسي وعمره ،ومعاناة سجنه ونفيه - كان معلماً في قرية نائية في الكوت- لكنه سيفصح عن تلك المائية التي تسبح فيها قصائده حين يكتب شهادة لكتاب الصديق حميد الذي ذكرته من قبل.
يتحدث سميع في تلك الشهادة عن مشهد يقول إنه “مشهد غرائبي ترك بصمته على رؤيتي للحياة”. ذلك المشهد هو الرؤية الصباحية للماء منساباً في النهر، حيث والد سميع المندائي يمارس صلاته عند شاطئه، ثم تنزل الشمس بضوئها لتزيد المنظر ألقاً. يصحب ذلك ما يقرأ الوالد بالآرامية الشرقية من صلوات “متجهاً صوب بوابة السماء ونافذة الحكمة ،غاسلاً يديه ووجهه ثم قدميه مع التضرعات”.
لم يكن ذلك مشغّلاً دينياً في تجربة سميع، بل ذكرى جمالية تركت أثرها في وعيه، مستخدماً صفة الطقس أكثر من مرة لوصف تفاصيلها. هو طقس الماء إذن ذاك الذي يعد من أكثر مؤثرات مخيلته التي لا تنفك عن رؤية واقعية كنا نناقشها معه وبصدد مضمونها المنكشف للقراءة بيسر قد لا يرضاه التجديد الشعري، فيرد بأنه اختار هذا التوجه لأنه يناسب ما يؤمن به من غرض الشعر ودوره في حياة الإنسان، وما يجعلها أكثر عدلاً وحرية وكرامة. ويؤمن بالجانب التداولي كما قال في شهادته تلك “بأن الشعروجميع الفنون لها وظيفة التواصل مع الآخر”. وكأنه بذلك يرد على تساؤلاتنا بصدد المباشرة والرومانسية التي قال إنه لا ينفيها عن نفسه وشعره، مخففاً من المباشرة، ومبعدا السطحية التي تفقد الشعر طعمه كما يقول. ويؤمن بأن للشعر أسراراً يحتفظ بها النص، ويكون على المتلقي أن يكشف عنها.
هكذا تطور وعي سميع، وتوافقَ مع مرتكزات تجربته التي ينتظمها الكفاح، والإعتقاد بجمالية الشعر وتواصليته.
بعيدا عن الشعر يظل سميع الصامت الأكبر في مجموعتنا. كنا نمزح أحياناً ؛ فأقول له في لقاء حميم: أنت سميع، وتلك صيغة مبالغة من السامع التصقت بك.فالآن نريد نحن أن نسمعك.
حتى في مكالمة أخيرة ساعدني على إنجازها مع سميع صديق عائلي مشترك، كان قليل الكلام، يسأل ليطمئن ويتذكر الأيام الواسطية، ويخبرني بصدور عمل له يعتز به كثيراً هو (مراثي ميزوبوتوميا).. هو يرثي ما بين النهرين، وعيناه على الماء الذي رآه يتبدد ،بعد أن تشوهت لحظة الحرية المنتظرة، وخذلنا الوعد الذي انتظرناه.
كثير من شعر سميع ضاع أو ضيّع. بعضه في سجنه الذي تجاوز الخمس سنوات، وبعض مزَّقه بنفسه غير راضٍ. كانت حكمته تشتغل بالضد من رومانسية شعرية واضحة في مفرداته وصوره. تعقُّله وما وهبته سنوات السجن ثم النفي منحته هذا الهدوء الذي كنا نجلُّه ونحبُه فيه. إنه معادل لما في الداخل من احتراقات، قال لنا إنها تمنحه مادة شعره ورؤيته للحياة معاً.
كنا نتأمله بيننا في نادي المعلمين، أو في نزهة على كورنيش المدينة، أو في سهرة بيتية، فنحار في قدرته على التحمّل:ا عتقاله وتعذيبه ثم سجنه لسنوات في أعتى سجون العراق وأشدها قسوة وعزلة ،ثم عيْشه في قرية نائية يقاسمه الصمت والألم فيها ، حيث يعيش في أحد صفوف المدرسة.. لكنه ذو رباطة جأش كنا لا نجد لها تفسيراً في أعمارنا الغضة تلك، وفي هياج أحلامنا وآمالنا وضجيج حياتنا. ولديه شيء من قسوة اتخاذ القرار التي لم نملكها، فهو يمزق بعض قصائده أو يحجم عن نشرها، ويصمت عامين كاملين كما يقول بعد إطلاقه من سجنه.
ما ذا كان سميع يفعل حينها؟
- “كنت أتأمل ما يُنشر من شعر وأراجعُ ما لديّ من قصائدي”. وهو يعوّل على الثقافة كثيراً ، ويأخذ على الكثير من الكتابات الشعرية السائدة فقرَها الثقافي وافتقاد النصوص الشعرية للعدّة الثقافية. وهذا ملمح آخر من سيرته وحياته امتد ليشمل رؤيته للكتابة الشعرية.
أما ثقافته التي يذكرها بفخر فأهمها احتفاؤه بالرموز والدلالات الموحية له، ومن أبرزها دون شك الماء . كان ذاك خلاصه الوحيد. فمنه جئنا، وتمنى سميع لو إليه يعود؛ فيقول:
على البحر متُّ
وفي البحر متُّ
وعند السواحل متُّ
لكن الأقدار العمياء والوقائع المؤسية في تعاقبها على حياته لم تمنحه ذلك، فغادرنا بعيداً عن الماء الذي أحب.
أيا فرحَ الماء
هيئ لنا غرقاً نعتليه
فبيني وبينك قُربى
وبيني وبينكَ حب قديم
وجرحٌ تناسلَ في الخاصرة
نمْ إذن يا سميع في حلمك ذاك، وافخرْ بقرباك للماء، فهو أصل الأشياء وأنقاها جوهراً.
وهناك تخلد قصائدك ومرائيك وابتسامتك التي كانت تعمل كالسحر في وجوه من يطالعونها ...
واجهتَ موتك يا سميع بها دون شك، والماء يحف بعينيك إذ تغمضان، سفراً لراحة أبدية وسلام، افتقدتهما في حياتك.