اخر الاخبار

كان ذلك عنواناً لإطروحة الدكتوراه التي تقدم بها الباحث عبد اللطيف عبد الرحمن الراوي عام 1976، الى جامعة بغداد. والتي كان للأستاذ سعدون هليل الفضل في الاهتمام بتلك الأطروحة الفذّة من أقبية الإهمال والنسيان، بما بذله فيها من جهدٍ حثيث، وصبرٍ مؤثل، حتى أخرجها إلى النور في حلّتها الجديدة الصادرة مؤخرا، عن (دار سطور)، والتي أطّر لها بمقدمةٍ معبّرة، زيّنها بسطورٍ من الحقيقة، وكلماتٍ من صدق، وعرفان، وشّى فيها عرفانه، وأبدى فيها إعجابه للباحث السيد عبد اللطيف الراوي، والذي جاءت إطروحته لتأكيد حقّ الأدب الماركسي أن يكون المؤسس لوعي الجماهير، ويقظة الشعب ضد وحشية جلاديه..

وهي أولّ إطروحة صريحة في الأدب الماركسي.. وكان الباحث الراوي قد إتخذ من مفهوم الإشتراكية غطاء أو تقيةً، خصوصاً وأنّ الأطروحة قد وضعت فوق طاولة لجنة من الأساتذة الموالين لطغمة البعث، والمشكّلة بموافقة نوري محمود القيسي/ عميد كلية الآداب، جامعة بغداد آنذاك، ذلك ان هذا الأنموذج من الأساتذة الذين إنتخبهم البعث خصيصاً لهذه المهام اللاعلمية، والذين أصبحوا أدوات رخيصة لتنفيذ مآرب البعث، وبفضلهم شَهدت مؤسسات التعليم الجامعية العراقية إنحطاطاً علمياً وأخلاقياً غير مسبوق.

 أخذت اللجنة المشكلة بوصاية القيسي، والتي ضمت عناصر من الأساتذة المشهود لهم بمعاداة الفكر الماركسي،  تماري الباحث وتجادل، وتتقصى في السفاسف والمهاترات؛ على الرغم مما أضمرت منذ البدء النيّة في حجب الثقة عن حقّ الإطروحة في نيل الإستحاق المذكور؛ خصوصاً بعد  أن تأكدت  من إعتذار د. الياس فرح ( عضو القيادة القومية ) عن حضور جلسة المناقشة؛ حرجاً وخوفاً من حضور مناقشات إطروحة، تُشيد بجهود الأدباء الماركسيين في بثّ عناصر الثورة والوعي ضد الإحتلال والتبعية الرجعية.

وعلى الرغم من الأصالة التي أبداها الباحث في الدفاع عن المباديء والقيم التي تحملها إطروحته، والتي إستمرت لساعات غير معهودة فوق الوقت المحدد لأطاريح الدكتوراه؛ مع كلّ ذلك أخفقت لجنة المناقشة، في تقييم موضوعي وعادل؛ فأوصت برفض حق الباحث في نيل شهادة الدكتوراه. ومن الجديرٌ بالذكر أن نشيد بدفاع الدكتور الراحل صلاح خالص الذي إعترض على قرار اللجنة الأنف؛ وبناء على تلك المقدمات المجحفة حرر د. صلاح خالص مذكرةً تفصيلية، بيّن فيها  ضغوط وملابسات تشكيل لجنة غير مؤهلة للأمانة العلمية؛ مما دفع وزير التعليم العالي أنذاك غانم عبد الجليل، أن يطلب من د. علي جواد الطاهر المشرف على الإطروحة، تشكيل لجنة جديدة تلافياً لملابسات تلك الفضيحة.

أصرّ العلّامة العراقي د. الطاهر، على رفض مقترح الوزير بتشكيل لجنة أخرى، معتبراً الأطروحة مستوفية لمؤهلات نيل شهادة الدكتوراه، وأوصى الوزير بقرار إستثنائي بإقرار حق الباحث بجدارة الدكتوراه.

تلك الممارسات السيئة التي سنّتها شريعة البعث، في توظيف أساتذة موالين لها في رئاسات الأقسام أو عمداء الكليات، فضلاً عن رئاسة الجامعات، أفضت في نتائجها الكارثية إلى تدمير الروح العلمية، وتحطيم روح البحث الرصين؛ بعد أن تسلّط على تلك الجامعات والكليات والأقسام أساتذة غير أكفاء وغير مؤهلين لبناء أسس جامعات علمية رصينة؛ ذلك التقليد السيء والشريعة الباطلة؛ أصبحت منذ ذلك التاريخ المشؤوم وإلى اليوم، عقيدة سائدة في كلّ الجامعات العراقية، وتقليد دائم وملازم لها.

إنتهج الراوي في إطروحته، منهجاً تاريخياً  في عرض وتقييم مراحل بداية تشكّل وعي جديد، وقيم إنسانية جديدة، في ظلّ مجتمع سكوني، عانى ويلات الخضوع، والتغييب لإرادته، وإلغاء تام لهويته القومية والوطنية، ولرسالته الإنسانية؛ فالعراق طيلة أكثر من أربعة قرون خلت، ظلّ رهيناً لمعتقلات الظلم والإستبداد، والوطن كلّه لم يكن أكثر من ولاية عثمانية تستوفي شعبه  ضرائب وطغيان عات،  وبمباركة من مرجعيات كهنة المعابد الذين أوصوا الناس بقدسية طاعة عصا الجلّاد.

لقد أرعبهم كثيراً، ولادة وعي جديد. من هنا ولِد نورٌ لم يكن في حسبان كلاب السطلة ولم يمرّ في أدب كهنة المعابد، ولا في مروياتهم العبثية، أن يتساوى الرق المستعبد، مع السيد سليل الحسب المقدس، ذلك الدم المؤله  والمنقّى.

كيف يتجرّأ الماركسيون فيعطوا للعبد حقّ وإمتياز السيد النبيل؟

الماركسيون، يطالبون الإقطاعي، الذي يعطي للكاهن (حقّه المقدس)، بأمرٍ إلهي، فيما لا يعطي للفلاح ولرقّ الأرض حقهم في الأرض وفي العمل..!

الماركسيون لا يفسدون العمال، عندما يطلبون منهم أن يثوروا ضد أصحاب المصانع والشركات المستغلِة لحقوقِهم، الآكلة لقوتِهم...!! كما يبث الماركسيون وعياً جريئاً، فيطلبون من الشعب أن ينتفض ويتحرر..

بدأ الراوي عرضَه التاريخي بتمهيدٍ إستوفى فيه تجذّر أساسيات أوّل حلقة إشتراكية إنبثقت بعزمِ وإصرار جيل الرواد الذين كان في طليعتهم حسين الرحال، الذي عاد إلى الوطن من المانيا  بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، يحمل معه أفكاراً ثورية، وإشتراكية، بعد أن إطلع على أدبيات الماركسية والتي أقتبسَ أنواراً منها أثناء إقامته في أوربا، خصوصاً وهو يتقن إضافة للغة الألمانية، اللغتين الفرنسية والإنكليزية؛ مما أتاحَ له الاطلاع بشكلٍ جيد على أفكار ومفاهيم النزعة الإشتراكية بمصادرها المتوفرة أنذاك، والتي أتاحت له فهم وتحليل طبيعة النظام الإجتماعي الطبقي القائم على إمتصاص دماء الطبقات المسحوقة من عمّال وفلاحين وعاطلين عن العمل ومهمشين، ومنبوذين إجتماعياً.

وقد إنبثقت مع حسين الرحال أول حلقة تنويرية في بغداد، إستقطبت عدداً من الشباب الريادي المؤمن بالتغيير، ومنهم عبدالله جدوع، محمود أحمد السيد، مصطفى علي، سليم فتاح، إبراهيم القزاز، وغيرهم. تداولت هذه النخبة الريادية أفكاراً ماركسية، وعمّقت لدى أعضائها مفاهيم الوعي الطبقي، وبذرت حقائق الصدام والصراع بين الأغنياء المترفين، والفقراء المحرومين.

لم يعد ذلك الصراع، صراعاً ميتافيزيقياً يدور في مطلق الغيب، وفقاً لمقررات الوعي الماركسي الجديد، على العكس تماماً، يحرص الوعي الطبقي المبكر لحلقة حسين الرحال على تفكيك نظم الغيب والتغييب الذي كانت تمارسه طغمة الإستبداد الديني المتخندق مع الرجعية والملكية والإستعمار، على انكار حقائق الصراع والإستعباد وتهميشه إلى صراع ميتافيزيقي – زرادشتي، لتغييب الوعي وتزييف حركة التاريخ. ومنذ البدء كانت قراءة الأدبيات الماركسية القليلة والتي يضطلع الرحال على ترجمتها أحياناً ، ديدن أعضاء الحلقة الماركسية الأولى، وعلى قلّتها؛ فقد ولّدت وعياً إستثنائياً مبكراً، أنزل الصراع من برازخ الغيب إلى الأرض، وعجّل بضرورةِ المواجهة ضد طبقات الهيمنة والإستبداد.

كانت مصر مصدر أكثر الأفكار والنظريات الإشتراكية، التي دأب الرعيل الثوري الأول على قراءة الجرائد والمجلات والحوليات التي تصل منها إلى العراق.

وهكذا إستمرّ الرعيل الأول من أجيال الوعي والثورة، بالقراءة، والبحث والتقصي، وإنعقدوا حولَ طاولات البحث والنقاش.

إنبثقت عن حلقة الرحال في الطور الثاني من مراحل تبلور الفكر الماركسي في العراق، حلقة ماركسية أخرى، ضمت عضوية شباب ثوريين مثل : زكي خيري، عبد القادر إسماعيل، عبد الله جدوع، عبد محمد رفعت، يوسف إسماعيل، عبد الفتاح إبراهيم، حسين جميل، نوري روفائيل، جميل توما، عزيز شريف، رشيد مطلق، وعاصم فليح، الذي أصبح أول سكرتير للحزب الشيوعي العراقي، عام 1934.

باشر هؤلاء الرواد الذين حملوا رسالة مصير شعب يواجهون قوى الظلام، او البقاء مغيبين في حضائر التدجين والخنوع، بمهمة إعداد كوادر رسالية مسلحة بالقراءة والوعي، وسرعان ما وسّع هؤلاء الرواد إتصالتهم لسيتقطبوا شعراءً وطنيين، وإدباء رساليين من أمثال حسين صدقي الزهاوي، والرصافي، والجواهري، محمد رضا الشبيبي، وذا النون أيوب، وغيرهم ممن ألهبوا وعي الشعب، وحرّضوه على الإنحياز لقضية الوطن...

في الفصل الثاني الذي كان عنوانه ( الفكر في الأدب )، أطلق د. الراوي قلمه حرّاً في إستعراض الرابطة الوثيقة بعلاقة الأدب بالفكر. وكثيراً ما يذكّرنا الراوي أن الأدب والفن ليس لهواً رومانسياً لذات عبثية يائسة، بل هو فكر ومسؤولية أخلاقية ورسالية، تأخذ على عاتقها مهمة تحرير الإنسان، وإيقاظه من غفلته وخيبته. إذا تخلّى الشاعر أو الأديب او الفنان عن مسؤوليته الأخلاقية، وتتبع أهواء ذاته، وألتحف غطاء أنانيته؛ فإنّ مثل هذا الأدب يخسر مبررات وجوده.