اخر الاخبار

تنشغل مجموعة الشاعر كاظم الحجاج (جدارية النهرين) انشغالاً شديد الأهمية بمدينة البصرة والتي تسعى نصوص (الحجاج) إلى استرداد أهميتها بوصفها مدينة تعيش في زمن ليس زمنها، لدرجة أن النصوص تدعونا إلى تصحيح معرفتنا براهن هذه المدينة عبر التحديق بمسيرة تاريخها والنظر إليها في الأوان ذاته بوصفها تركيبة أسطورية دأبت على البقاء في تماس مع الشعر، بل أن تاريخ المدينة هو عالم مفتوح على الشعر الأمر الذي جعل الخصوصية الأدائية للنصوص ملائمة لنوع من الاستعمال الشعري الذي يعتمد على المعاني المرتبطة بالاستعمال اليومي والناجمة عن نواعت وصفات الملموس، التي لا تأخذ معيارها من خارج محيطها وتلبية لهذا الأمر، فأن حاضر مدينة البصرة في قصيدة (صلاة على ما تبقى) مثلاً، يرتد ليتجلى بأبلغ صورة في صيغة الماضي، حاملاً صفات بوسعها أن تنتج أثراً مكانياً غرائبياً يتغذى على الوقائع لا الافتراضات، وعلى هذا الأساس تتحول الكتابة الشعرية إلى ممارسة أكثر منها تدويناً.إن وراء اشتغالات التخييل واستثارة المكون المأساوي للسخرية في نصوص مجموعة (الحجاج) شيء ذو قيمة حقيقية ينبثق من ثنايا موجودات المدينة ويمثل الشاغل الشعري لها، حيث يظهر مأساتها عارية وبوسعه في الوقت ذاته أن يعطي الدهشة المفقودة للشيء المنظور فيها، بل تسمح لنا النصوص في هذه المجموعة النظر إلى المدينة من غير أن تكون شيئاً مرئياً، بمعنى إنها تحمل أثر ما هو غير موجود فيها حالياً، وبما يتفق مع اشتغالات التخييل التي تعتمد اعتماداً كلياً على لحظة الاختلاف مع ما هو معاش، فالشعر يجعل غير المحتمل محتملاً وهو جدير بأن يسعى إلى قول مالا يقال، لا سيما حينما تتوقف المدينة عن أن تكون نفسها:

أين المدينة ؟ ذابت .. قُرى : … غزتها

العشائر. أين (الخوارج) صاروا (الدواخل)

أين الجسور ؟ والبنات الضحوكات ؟ أين النوارس؟

حلّ الخراب !

إن البناء التخييلي في نصوص المجموعة يسمح بتزويدها بوسائل التأثير المتمثل بخروج الشعر عن المسار الموروث، وبالتالي فأنه يمنح النصوص ميزة أدائية من شأنها أن تقارب بين الشعر والنثر مستعيرة الوظائف المختلفة لهما، فالنثر ينفصل عن سياقه ملبياً حاجات الشعر، فيما ينفصل الشعر عن سياقه ملبياً حاجات النثر، في إطار تمكين النثر في أن يخلق شعراً، ومن ثم تمكين الشعر في أن يخلق نثراً، يجري ذلك ضمن درجات معينة من الانفصال كل في سياقه وحسب الحاجة والاقتضاء.

إن هذا التعايش الغريب بين الشعر والنثر قد يسعى إلى تثبيت أصل آخر للشعر، ليصبح أكثر إثارة للاهتمام من غيره، ما يعني أن هذا التداخل بين الشعري والنثري غير معني بتخريب هوية الشعر، فالنثر في النصوص لا يمكن أن يكون كائناً خارج الشعر والعكس صحيح، على افتراض أن كلاً منهما متضمن في الآخر، إنهما يتباريان في اتجاه وسياق واحد:

(دون سابايس) ـ لنظافته في حي الفقراء

يسمى (الكنـّاس)

لا يترك شيئاً وسخاً فوق الأرض

ولهذا يبدأ بالصحف الملقاة

الأوسخ من كل الأشياء

إن هذا النمط من التواصل بين الشعري والنثري يكاد أن يستحيل على التحقق بالصورة، التي تعول على تجاوز المألوف، لذا فهو جدير بالمراجعة والفحص لمعرفة ما تطرحه هذه التجربة من مستويات تخييلية غاية في الاستباق، فهي منشغلة في أغلب الأحوال بحالات التذكر الاسترجاعية، التي بمقدورها أن تنتج أرشيفاً حياً اعتماداً على الأداء التناوبي بين الشعر والنثر، وهو تناوب من شأنه أن يهب صفات الشعري لما هو نثري، ومن ثم القدرة على حصر العالم المتخيل في الشعر بين ممكنات الشاعر والسارد في الأوان ذاته، ومهما يكن من امر فأن ما يلاحظ في هذه النصوص إنما يمثل نمطاً متفرداً ربما أمكن دعوته بأنه طريقة أخرى لقول الشعر، بل أنه نمط قد يطيح بمحدودية النظرة إلى الشعر:

كربُ الجنوب ملامحي أنا ،

وعمري خمسة وستون صبراً

– في الشرق عقوبتنا طول الأعمار-

أما الخصوصية الأدائية الأخرى في مجموعة (الحجاج) فتتمثل في التلميح عن شيء، ومن ثم الاحالة إلى شيء آخر عبر استثمار فخامة الحس الانساني وغزارته لدى الشاعر، وما تنطوي عليه هذه الغزارة من دلالات ورؤى حدسية قادرة على التقاط الصور الانسانية في الحياة، والمقترنة بالخشية والارتياب ومحاولة رصد شيء انساني يصعب لمحه، لاسيما حينما تفقد البراءة حقوقها:

السمكة تتعذب بالصيد، جربوا الغرق لدقائق

الطير يسبّح لله فلماذا نذبحه، ونكبّر بإسم الله

كم نقتل بإسمك يا الله ؟!

ومن المعلم الابتدائي عرفت (الماضي)

هو السيف….. لا التاريخ

ثم تذهب النصوص الى ركوب المسلك الانساني لدرجة إنها تصبح امتداداً للحظة، تتحول فيها الاغصان إلى ضحايا ليلة باردة:

هل نبقى ندفئ بردنا ؟

نبقى نُعد الشاي بالقتلى من الأشجار

ولا تخشي فإني شهريار دونما سيف

يخوّفني خيالي، حينما يهتز حول النار

إن الأشياء في مجموعة (جدارية النهرين) لا تتجدد في الشعر من دون إمكانية حضور الحس الانساني، وكأن النصوص والأشياء يتقاسمان الوظيفة نفسها، بل أنهما يشعران بشعور متقابل وحضور المصائر شرطاً لتوحدهما، وهذا يعيد إلى الأذهان الخاصية التي لا غنى عنها في شعر (الحجاج)، والمتمثلة باقتناص واختزال اللحظات الانسانية وبثها في النصوص، عبر أرشفة قابلة لأن تحيا، بامكانها أن تجعلنا لا نقرأ تاريخاً، بل نقرأ تخييلاً شعرياً شديد الثراء بالتاريخ والماضي، الذي لم يزل حياً، موصولاً بالبعد الخرافي لأمكنة وشخصيات المدينة، التي لا تكف عن النطق أبداً.

عرض مقالات: