اخر الاخبار

يشرح ابن خلدون شرحا اجتماعيا، كيف يؤدي الترف بأصحابه الى التخلق بالأخلاق السيئة كالكذب والمقامرة والغش والخداع والسرقة والفجور ففي رأيه حسب الوردي “ان ذلك أمر طبيعي تؤدي اليه، عادات الترف من حيث التأنق في المطابخ والملابس، والمباني والفرش والانية فتتلون النفس من تلك العادات بألوان كثيرة لايستقيم حالها معها حيث تضطر النفس الى التفنن في تحصيل المعاش من وجهه وغير وجهه، وتنصرف الى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له،  فلا تبالي عندئذ بالاخلاق الحميدة التي امرت بها الشرائع “ ص156، الوردي، منطق ابن خلدون.

اي ان الترف ينسي الناس الدين والتدين يقول فوكوياما” ان المجتمع الحديث بتشديده على الحقيقة والشفافية قد قتل التدين، لم يكن لديه ما يستعيض به عن التدين “ وبالرجوع لابن خلدون “ ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ، فافهم ذلك واعتبر به ان غاية العمران هي الحضارة والترف وانه اذا بلغ غايته فانقلب الى فساد واخذ في الهرم كالاعمار الطبيعية للحيوانات “ منطق ابن خلدون .

ففي راي ابن خلدون ان الناس اذا وصلت الى قمة الترف، فهذا يعني ان دولها مقبلة على الزوال، هذا هو الطور طور الاستهلاك الذي يخشى معه هلاك الدول وخرابها، وهنا الرأي سبق ابن خلدون فرانسيس فوكوياما في رايه بالانسان الاخير او نهاية التاريخ.

يقول : “ يغلب على السواد الاعظم من البشر في العصر الحديث كونهم محدودي الافق وأقزاما يثيرون الشفقة والرثاء، حيث يفتقرون الى الاحساس بكيفية بلوغ الشأن الرفيع وهم لايملكون سوى غريزة مراكمة الرفاهيات والكماليات التافهة والملذات الرفيعة في عالم مادي مسكون بهواجسه الذاتية، فاذا كان فرط الرغبة في الهيمنة وحب الظهور قد تلاشى من حياة البشر،فقد تلاشت العظمة لتبقى ضآلة وضيعة ولاشيء عداها، مقال مترجم ل بول ساغار، من يضحك اخيرا ..يضحك عميقا، نشر في مجلة الثقافة العالمية، مارس /ابريل/ 2019، العدد 198، الكويت، ص158-159) لقد برهن ابن خلدون قبل مئات السنين من فوكوياما الى ان الترف ونزعة الاستهلاك تهدم المجتمعات والدول ويصل بها الى نهاياتها، فالتفنن في مذاهب الترف يقود الدول الى الخراب وهذا ما اوضحه فرانسيس فوكوياما، في كتابه “الانسان الاخير” فقد كان تكهنه بملامح المجتمع الغربي ما بعد نهاية التاريخ، انها ملامح سيئة، اذ كان من الممكن ان ينزلق ما أسماه “ الرجال الاخيرون” عند نهاية التاريخ الى درك الرضا البهيمي بالمباهج المادية، أشبه بكلاب قد استرخت تحت شمس ما بعد الظهيرة، وهكذا فان فوكوياما بين بأن الرجال الاخيرون والنساء الاخيرات، غير راضين البتة بما نالوا من رفاهية وتنعم غير مسبوقين، لكون تلك الرفاهية وذلك التنعم قد اخفقا في اشباع رغبتهم في الهيمنة وحب الظهور، فاذا ما سلك الرجال الاخيرون هذا المسلك فسيضحون ضجرين بما أطلق عليه”فوكوياما” (العبودية من دون اسياد) وهي حياة الاستهلاك وقد تكهن فوكوياما بأن هذا الضجر والتململ من الحياة الجديدة ستكون في النهاية بحاجة الى متنفس سياسي والذي سيكون كحمم بركان في فورته، فوكوياما وصف الحضارة بالمبهرجة الجوفاء، ذلك الملاذ الجدب للانسان الاخير كذلك وصف ابن خلدون قبله بقرون ان من مفاسد الحضارة الانهمال في الشهوات كما  مرّ بنا، واعتبر انه اذا بلغت الحضارة هذه المفاتن فهي الى زوال، اما فوكوياما فقد عبر عن نهايتها بأنها بحاجة الى متنفس سياسي سيكون كحمم بركان في فورته، وهكذا سبق ابن خلدون فوكوياما بأشارته الى نهاية الحضارة اولا بعد بلوغها مرحلة الترف وكيف ان الترف والحضارة تسلب الناس التدين، من دون بديل، كما عبر عن ذلك فوكوياما مع اختلافات الزمن والمكان وليس من المستبعد ان يكون فوكوياما قد اطلع على الفكر الخلدوني في هذا الباب حتى قال به في كتابه” نهاية التاريخ والانسان الاخير”.

ويتوقف الوردي عند اخوان الصفا الذين سبقت اشاراتهم بانحطاط الدولة قبل ابن خلدون وفوكوياما، اذ “ تضمنت رسائلهم كثيرا من الافكار التي لها صلة بالامور الاجتماعية ومن هذه الافكار قولهم بان الدولة لها عمر تنتهي بانتهائه، ففي رايهم ان ليس هناك دولة ابدية، فكل دولة لابد ان تميل الى الهبوط بعد ارتفاعها انها تبدأ في اول امرها نشيطة قوية ثم تاخذ بالانحطاط والنقصان شيئا فشيئا حيث يظهر على اهلها الشؤم والخذلان ولابد لها في النهاية من حد تقف عنده ( هذه العبارات وردت في الرسائل، الجزء الاول، نقلا عن منطق ابن خلدون، الوردي، ص162).

الملاحظ ان ابن خلدون جاء بمثل هذه الفكرة في مقدمته حيث شبه اطوار حياة الدولة باطوار حياة الانسان من فتوة وكهولة وهرم ولكن ابن خلدون يختلف عن اخوان الصفاء من ناحية التعليل لهذه الظاهرة وهنا يظهر الفرق الكبير بين منطق اخوان الصفاء ومنطق ابن خلدون “ باختلاف الظروف طبعا والبيئة والزمان وهكذا فان منطق فوكوياما يختلف عن كليهما الا انه يمر بنفس الفكرة تماما.

ويكمل الوردي في اطار مناقشاته لاخوان الصفا انهم يحاولون تعليل الظاهرة تعليلا صوريا اذ هم يرون ان الدول تدور تدور في الارض على منوال ما تدور الافلاك في السماء، وذلك تبعا لقانون عام يشمل الكون كله، فهم يقولون ان الزمان نصفه نهار مضيء والنصف الاخر  ليل مظلم، والزمان ايضا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما كلما ذهب هذا رجع ذاك، وكلما نقص من احدهما زاد في الاخر بذلك المقدار . هذا ما يورده الوردي من خلال رسائلهم .

ويكمل الوردي الى ان هناك من سبق اخوان الصفاء الى مثل هذه الفكرة، على وجه من الوجوه وهي في الواقع فكرة قديمة نشأت من ضمن الاساطير الشعبية لدى كثير من الامم القديمة، في العراق ومصر وايران والهند والصين وغيرها.

وسبب نشوئها فيهم انهم كانوا يأملون ان تتبدل احوال الظلم والفساد التي كانوا يعانون منها، فدفعهم الامل الى توقع مجيء عهد جديد كمثل ما يجيء النهار بعد الليل والصيف بعد الشتاء، ومن هذه الاسطورة نشأت فكرة المسيح لدى العبريين والمهدي لدى المسلمين وجاء اخوان الصفا اخيرا فاتخذوها شعارا لهم ليوحوا لاتباعهم بأن دولة الخير التي هي دولتهم اتية لاريب فيها.

ويكمل الوردي “ ان اخوان الصفاء يصنفون الدول الى صنفين لا ثالث لهما هما: دولة الخير ودولة الشر، وهم في ذلك يجرون على قانون الوسط المرفوع وهو من قوانين المنطق القديم لدولة من الدول كما يقول الوردي في رايهم هي منذ البداية، اما ان تكون خيرة او شريرة، وهي تبقى كما بدأت الى النهاية، والتاريخ ليس سوى دورات تتعاقب فيها دول الخير والشر .

ويقول الوردي “ يغلب على ظني ان ابن خلدون قد استمد فكرته عن الدور الاجتماعي من اخوان الصفا، انما هو قد طورها واخضعها لمنطقه الجديد، فهو اولا لا يعترف بوجود صنفين متمايزين من الدول، ان كل الدول في رايه متماثلة تقريبا حيث تبدأ في اول امرها صالحة ثم تنحدر في طريق الفساد تدريجيا وابن خلدون لا يعلل ذلك على اساس ميتافيزيقي كما فعل اخوان الصفاء، بل هو يعلله تعليلا اجتماعيا، فهو يعزو انحدار كل دولة في طريق الفساد المحتوم الى الترف الذي يصاحب ازدهار الدولة عادة، وبهذا يفقد الحكام خصالهم القوية التي كانوا يتخلقون بها اول الامر، فينهارون وتنهار الدولة معهم، حيث يحل محلهم حكام جدد من اولي الخصال القوية .يروي ابن خلدون انه عندما وقع الحريق في الكوفة في عهد عمر بن الخطاب، استأذنه الناس في بناء الكوفة بالحجارة فقال: افعلوا ولايزيدن احد على ثلاث ابيات ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة “ يبدو ان الفقرة الاخيرة من كلام عمر كان لها الاثر البالغ في تفكير ابن خلدون، يقول عمر : الزموا السنة تلزمكم الدولة، وياتي ابن خلدون ليقول ان الناس لا يستطيعون ان يلتزموا بالسنة بعد ان يأتيهم الترف، ولهذا فلا بد ان تضيع الدولة منهم، في نهاية المطاف” ص163، م س .

عموما اثبتت دول العالم الحديث، انها وبعد ان تسير في مسيرة الترف والطغيان التي ترافقها غالبا من دون ان ترعوي لمفهوم حقوق الانسان وغيرها من المفاهيم المهمة تبدأ هذه الدول بارتكاب الاخطاء الفظيعة وهكذا تنحدر شيئا فشيئاً الى ان تدمر نفسها بنفسها او ان ترتكب اخطاء كبيرة تؤدي بها الى الزوال والامثلة لدى كل منا كثيرة جدا جدا.

عرض مقالات: