اخر الاخبار

في قراءة بحثية لمنطلقات (هانز ثيز ليمان) وتحليل مرتكزات النظرية التي يعتمدها ليبث فضاء مسرحه المغاير الذي وسمه لما بعد الدرامي ومن ثم  صار شاغل المسرحيين والمترجمين منذ العقد الأخير من القرن العشرين وما تبع اشتغالهم ذاك من فرضيات وتعريفات لم توصلنا عربيا على الأغلب لفهم تتضح معه الاتفاقات المعملية المحيطة بتطبيقات عروض مسرح ما بعد الدراما، ذلك إن احد أهم الأسباب يرجع إلى إيغال هذه الممارسة في المثاقفة والعصرنة واجتلاب المعطى التكنولوجي والانفتاح حد الفوضى بمستوييها الخلاق وغيره لكن الدراسة المترجمة هذه في إحدى مستوياتها القرائية حققت إحالة تحليلية لجزئية يمكن الإفادة منها إذ ما جرى إسقاط موجهاتها الموضوعية في إعادة إنتاج معنى خارج استعراضات اللغة ومريديها من الذين اشتبكوا قرائياً لتفكيك مصطلح مسرح الصورة للمخرج العراقي الرائد (د.صلاح القصب ) ولم يسهموا سوى في إعادة تصدير تعالق اصطلاحي جديد أسهم في رفد هذا المتشكل المسرحي بمشغلات طاردة لمدركات الفهم لجيل قادم من الشباب وداعمة في الوقت ذاته للذة عدم الفكاك من تصعيد جدلياته في الفضاء النقدي الأكاديمي حصراً، فخطاب مسرح (القصب) لم ينفك هو الآخر في تصعيد جدلياته الهيغلية التي ما إن تنتهي حتى تبدأ من جديد وكأنها تتوالد في النقيض، ففي غير مرة حاول القصب ذاته من أن يوضح معنى (الصورة) التي يبتغيها ويتوسمها في كل عروضه فيما لم يسعفه على الأغلب الملفوظ اللغوي المتداول بالنسبة للآخرين والمتقاطع مع القصب جماليا، سيما اذا عرفنا إن القطيعة الابستمولوجية مع الملفوظ النصي كانت ولازالت سارية المفعول في لا وعي القصب الذي يهرب بمحاضراته نحو فنون العمارة وعظمة الباروك ودهشة الروكوك والعشاء الأخير، وذات النسق يتضح عليه في مواظبته اللافتة المتصلة بفن الرسم واللوحات التشكيلية فأن لم تكن تعرفه لحسبته رساماً، حيث ينطوي جوهر محاوراته ظاهريا على فنون التشكيل من لون وخط او كتله بل وحتى الفضاء الذي يشرد بذهنية قصديه نحوه، فيما يتماهى النسق المضمر في حواره نحو الصورة ومتخيلاتها التي تتعاظم حد ضياع التواصل فيما بينه والآخر أو لنقل تغريب المشتركات (برختياً) فيما بينه ومخاطبيه ومن ثم تتيه لغة الملفوظ في تلك المسافة الفاصلة ما بين عبقرية الرجل بحسب تاريخه الفني وتجربته المسرحية التي تجاوزت حدود القبضة الكولونيالية للمنجز العربي حتى صار مريدوها في المغرب العربي أكثر وأعمق من مشرقه الاصل، وما بين سوء الفهم من قبل الطرف الآخر الذي يتحسس بساطة الحوار ويعجل بإطلاق الحكم على لا جدوى إطالة الحديث دون مشتركات، وهي حقاً غيبة لمشتركات طالما أحسها محاورو (القصب) ذلك إن الحوار في طرفي المعادلة مختلف وغير متكافئ فمن ذا الذي يعهد إلى غير اللغة المنطوقة في سحب تعريفات إجرائية لمفهوم الصورة القصبية، فيما لم يجرب ا(لقصب) نفسه إن يشرح صورته الجمالية خارج نطاق العرض المسرحي أو فالنقل خارج حالة التمسرح التي يتوخاها كلما دخل فضاء نصياً والتي يستطيع إن يوظفها القصب ويستعرض بوساطتها أفكاره ورؤاه ومن ثم يقول ما يريد بسلاسة مجاورة لفرضيات أفق التوقع برمته، إن سوء الفهم ذاته ينطوي على السبيل الأقرب للإيضاح،.. لأكثر من مرة تساءل المعلم الأول أستاذنا الراحل (سامي عبد الحميد) عن ما إذا كان هناك مسرحاً دون ما صورة؟ مسترسلاً إن لكل مخرج صوره المشهدية وان الصورة هي جوهر ثابت في كل العروض المسرحية على امتداد تياراتها وتاريخها ومدارسها، مسترسلا عن ماهية جوهر الاختلاف ما بين أي عرض مسرحي من جهة مقابل عروض صلاح القصب التي يدعي بأنها عروض مسرح خاص يتمركز حول مفهوم الصورة بأبعاد وفلسفة مغايرة؟ وعلى الرغم من ريبة السخرية والتهكم التي تبثها النبرة (الانكلوعربية) المجلجلة لأستاذنا الراحل(سامي عبد الحميد) وتصيد كثيرين هذا التهكم المحتمل إلا إنه التساؤل الأكثر منطقية والصيغة الأكثر إيضاح والاستفهام الأدق مباشرة والذي لم يجد تقابلاً مرضياً له، وكيف يمكن إن يتواطأ من يتأتى من متن الدراما النصية الحكائية الخالصة مع الذي انشأ حضوره المجاور في متن آخر متن الصورة تلك فجوة من غير الممكن ردمها إلا إذا جاء الردم من طرف ثالث، ترى هل كان القصب يوكل في كل عام دراسي مهمة الكتابة عن الصورة وفلسفتها المسرحية إلى طلبة الدراسات العليا كان ينوي إن يستعيض بالشرح والتفسير بآخرين لهم قدرة نمطية على التحاور ضمن سياقات اللغة المتداولة أكاديمياً، ربما ..؟ ومع ذلك أكاد اجزم إن الجميع فشل دون استثناء، فمن يفسر ما لا يفهم؟ على إننا جميعاً كمراقبين معجبين بالقصب وصورته الرائعة وليست الجميلة بحسب مختلفات (ليوتار)، خصوصاً وانه صار يمثل إرثا عابراً للحدود وعلامة فارقة في منحنياتها، وفي العود نحو مقاربات الصورة القصبية التي أحالتها إلي الدراسة سابقة الذكر يحاول (ليمان) إيجاد صياغات إجرائية ذات بعد تنظيري لمسرح وفكرة ما بعد الدراما، وبذلك يعيد إنتاج السؤال المركزي في التفريق بين ما هو درامي وما هو بعد درامي بل وحتى ما قبلهما، ولكي لا تتعدد بؤر المعنى لنركز على أعظم أطروحات (ليمان) نفسه في مقترحاته للبحث عن أقبية نصية مختلفة ومغايرة ومفارقة في الوقت نفسه عن النص الدرامي على أن لا يتحقق ذلك بالمحو وإنما بوساطة المجاورة وجمالياتها التي تعمد نحو الكشف عن آليات اشتغال تجريبي تعيد توزيع نسب الحضور والتمثيل للعناصر المكونة للعرض المسرحي كما فعلت التكعيبية مثلاً، وتلك الفضاءات النصية المختلفة يجب إن لا تكون بالضرورة نمطية، بمعنى إن لا تكون مألوفة وجرى الاتفاق على فهمها ببساطة ودون دهشة، لذا فهو يقترح مجموعة من المقتربات الجمالية على سبيل التماثل منها نص المتفرج أو نص المخيلة أو نص فنون الأداء او نص الصورة وهذا النص الأخير يشكل مقاربة في عوده الأبدي نحو سؤ الفهم إذا ما وضعنا نص الصورة (لليمان) في مقابل مسرح الصورة (للقصب) فما الذي يعنيه الاثنان من الصورة؟ وما هي مرجعياتها الفلسفية المعاصرة؟.. ذلك إن الأمر لا يتضح في حال كانت الصورة هي محور البحث والسؤال او هي المدخل المباشر بل هو يتضح حين نضعه بوصفه نتيجة محتمة للاشتغال على بعد درامي مغاير ومركب في الوقت ذاته، أي إن نص الصورة المقترح لدى (ليمان/القصب) هو نص درامي وظيفي جمالي متصور غير حكائي يعيد بوساطته صانع العرض إنتاج مركبات مغايرة في المعنى والجمال والحساسية النقدية المعاصرة لحكاية النص الدرامي الذي يعتمد على الملفوظ/المحكي الخالص من دون إن يلغيه محققاً صيغ ما بعد الدراما التي تنشئها ممارساتها النظرية في اشتراطات التجاور والنسبية والتقابل والتجاوز والتشتت والتي تؤدي دورها نحو تفعيل عامل الإدهاش لدى المتلقي الذي طالما ألف الصورة التعبيرية وخواصها الجمالية التي تهيمن على المسرح الدرامي، تلك الألفة هي بالضبط ما كان يقصدها اغلب محاوري القصب والتي لم تكن حاضرة يوماً في مسرحه أو وعيه. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

*استاذ المسرح في كلية الفنون الجميلة - بغداد 

عرض مقالات: