اخر الاخبار

عن دار سطور للطباعة والنشر صدرت رواية “ديسفيرال” للروائي نوزت شمدين عام ٢٠١٩ ويوحي العنوان للوهلة الأولى بالغموض لمن يجهل معناه ويزداد تشوقاً لمعرفة هذه العتبة الغريبة التي ستكشف دلالاتها وإحالاتها بعد الخمس الأول من الرواية لحين الإلمام بكل جوانب الـعنوان ديسفيرال ، بإختصار إن الكاتب روض وبذكاء هذه الثيمة العالمية المعقدة عنواناً لجوهر فكرته التي تستدرج القارئ لاإرادياً إلى جانب معرفي طبي، وبحث غير مسبوق مروراً بمرض (الثلاسيميا) وصولاً إلى آلية زراعة نخاع العظم مُلماً بكل المصطلحات والعقارات الطبية ومعانيها بغية الإحاطة الشاملة بالمرض وعلاجاته ومحاذيره ومضاعفاته وكيفية حدوثه مسلطاً الضوء على الإهمال الطبي في العراق وتردي الخدمات الصحية والبرامج التوعوية والوقائية والتأكيد على اجراء فحوصات ماقبل الزواج للتأكد من سلامة الزوجين وعدم حملهم لجينات المرض الوراثية الناتجة عن زواج الأقارب و التي تظهر على الأولاد وهذا ما حدث بالفعل مع (جابر) الذي يمثل نقطة انطلاق الرواية من الصفر بولادته مانحاً والديه (سليم)و (زاهدة) فرحة متأخرة لم تمكث طويلاً حتى تحولت إلى خيبة كبيرة متضخمة بمرور الوقت إلى خطيئة سيسددان ثمنها الباهظ لسنوات، دموعاً وسهراً وتأنيبا للضمير مزق قلبيهما ولاسيما الأب الذي لم يتخلص من شعور ارتكابه لإثم شنيع في صباه يوم قتل عمه(عزام) متعمداً وسط حشود المحتفلين بنهاية حرب الخليج الثانية حيث قُيدت الحادثة ضد مجهول بسبب طلقة طائشة لإنه كان على خلاف مع والده(مجيد) ورافضاً لزواجه بإبنته وهذا جعله يفتش على الدوام عن عقوبة مناسبة للتكفير عنه والخلاص من عذابه  فلم يشفع له إطالة ذقنه وتقصير ثوبه ولا تردده المستمر على الجامع ولا حتى تشدده الديني الذي فرضه على عائلته واخيراً تيقن تماماً بأن الله عاقبه جزاء جريمته بمرض ولده الذي لن يشفى منه،طرق الكاتب ابواباً لأفكارمختلفة مشتقة من الفكرة الأساس وهي في غاية  الأهمية وتحاكي الواقع البائس مثل الخرافات المُبتكرة للتعامل مع الأمراض وعدها ضربا من ضروب الحسد والشعوذة او مس من الشيطان ووجوب التخلص منها بأعشاب المشايخ او على يد الدجالين والتخلف القروي الذي لم ولن يتحضر والذي من شأنه مضاعفة كل الأمراض والأفكار الدينية المتعصبة والمتطرفة التي تصطاد حتى في الماء العكر ولايسلم منها لا مريض ولا مُعاق، هذه الفئة تمثلت بالشيخ شجاع امام المسجد الداعشي يوم سارع لعرض الشهادة بالحزام الناسف بقوله(ان يُمن الله على جابر بشهادة تصيب الكفار المحتلين بمقتل فيضمن الجنة لنفسه ولكم الشفاعة بإذن الله تعالى) فضلاً على ظاهرة التنمر المتفشية بين صفوف الطلبة والتي تمارس ضد كل مريض دون رقيب وحسيب ومابدر من مدير المدرسة كان دليلاً واضحاً(زميلكم الجديد وليد كامل عزيز انتقل إلى هنا من مكان بعيد ومن الجيد وجوده في صفكم لكي لايشعر جابر بالوحدة) فوليد مريض بشلل الأطفال على عكازتين كبيرتين وبنظارة غليظة والذي يبدو كحشرة اصبح بالفعل الصديق الوحيد والمُحب لجابر المريض بالثلاسيميا والذي يبدو كالضفدع بجلده المخضر والمزوق وبروز عظامه وجحوض عينيه والذي يعتقد ان موته قد تأخر كثيراً وتجاوز اسقف توقعات الأطباء ومديات الأدعية الموجهة إلى الله ليطيل عمره وجعله كمعجزة في عيون الناس تمشي على قدمين هزيلتين، المثير للدهشة والغرابة إن جابر بعد نوبات الألم التي تضرب جسده حال الإنتهاء من عملية نقل الدم غير المفلتر وغير المفصول لعدم توفر التقنيات اللازمة لذلك يكتسب شيئاً من روح المتبرع فيرى جانباً من حياته وتجاربه واحلامه وافراحه واحزانه و يكتسب خبرته في الحياة وغدت هذه متعته الوحيدة للخلاص من ألمه وعذابه ولم يفش بهذا السر سوى لشخص واحد مقرب لقلبه وهو (وليد) الذي لم يمكث طويلاً في عالم الأحياء فكان ضحية لجماعة دينية متطرفة اتهمته بالكفر والبغي ويستحق الموت رغم شلله ومرضه لمجرد انه كان يبيع السراويل الرجالية بطريقة فكاهية ولافتة.

النسق السردي للرواية اعتمد على ثلاثة أجيال متوالية الأجداد (عزام ومجيد) المتناحران على الميراث والفوز باللقب ،الشيخ والوالدان (سليم وزاهدة) المعذبان بإبنهم ومشاركتهم بتعذيبه والأبناء(جابر) و(إيثار) الأخ الأصغر الذي  كان قدومه إلى الحياة بمثابة الأمل الوحيد الذي سيُمنح لجابر بالتطابق النسيجي للنخاع و الذي اظهر نتيجة مخيبة هدمت احلام الابوين بنجاة ابنهما، كل شخصيات الرواية ظهرت اصواتها بوضوح أثناء السرد لتروي حزئها من الرواية المقسمة بأسماء هذه الشخصيات المساهمة في تنامي الحدث بحيث ان كل واحدة تقدم نفسها وتعبر عن رأيها من خلال تواتر الأحداث التي تسردها ضمن إطار نفس الحكاية بخطاب سردي يتذبذب بين الماضي والحاضر واستخدام تقنيات سردية تعمد الروائي ادغامها ضمن متن الرواية لسد الثغرات السردية وتماسك الأحداث بين الزمنين مثل استرجاعات خارجية على شكل تعريفات عن الشخصيات واطلاع القارئ على ماضيها واستباقات لإثارة عنصر التشويق السردي له بالإعتماد على بنية زمنية ترتكز على الإرتداد والرجوع  بالذاكرة  إلى الماضي ثم العودة للإتصال بالحاضر المروي.

ان تعددية الأصوات في رواية “ديسفيرال” تكشف لنا ان السرد الذي نهجه الكاتب هو(السرد البوليفوني)الذي يوصف كمظهر من مظاهر التخفيف من النزعة النرجسية لدى المؤلف مستنداً على تعددية الأشخاص والأصوات تاركاً المجال لهم لإظهار تأثيرهم الى البنية السردية ومن الجدير بالذكر ان المظهر البوليفوني(متعدد الأصوات)الذي شخصه  الناقد الروسي ميخائيل باختين اذ عرفه بقوله(تشتمل الرواية المتعددة الأصوات على العلاقات الحوارية بين جميع عناصر البنية الروائية مثلما يحدث عند مزج مختلف الألحان في عمل موسيقي)هذه الممارسة الفنية الديمقراطية في التعبير عن الشخصيات وسرد الحكاية من وجهة نظرهم وبأحاسيسهم تستهدف كسر هيمنة (الأنا) اثناء السرد فيصاغ الكلام من مواقع مفتوحة من قبل الشخصيات بنزعة تحررية دون ان تسطو واحدة على الأخرى وبالنهاية تبدوالرواية متماسكة ومنسجمة بكل اجزاءها وتسير الأحداث والسياقات الزمنية  بشكل متوازي ومنظم لحين الوصول إلى نهاية مفتوحة لانهاية محددة لها.

الرواية اتسمت بالنظرة السوداوية للحياة وكانت محبطة للقارئ بما يكفي لتكون (أيقونة الحزن) بالنسبة له وملاحقة الأمل بتوتر وقلق وترقب من قبله بين صفحات الرواية المحشوة بالبؤس والتي أشاعت نسقاً من الركود كانت رحلة متعبة في بعض الأحيان وربما مملة في أحيان أخرى لان الفرح مهما كان بسيطاً فوجوده في الرواية سيمنح القارئ ديمومة الأستمرارية بنفس الحماس الأول للسطور الأولى،  حكم الكاتب على روايته بحزن عراقي عميق من قلب الواقع مختتماً كل افكارها المطروحة بالخيبة ذاتها فوليد المؤنس الوحيد ومكمن الأسرار لم يبق على قيد الحياة ،ولم يحض جابر بحب ليان بائعة الورد التي لأجلها فتح نوافذ الأمل وتعطر واهتم بمظهره وعشق الورود، ولم تنجح عملية زرع النخاع لعدم وجود تطابق نسيجي مع أخيه الأصغر إيثار،والجماعات الدينية المتطرفة لم يضع لها حد فهي كانت ومازالت ظاهرة على الساحة وبقوة سواء ان كان ذلك في الرواية او الواقع وبالنهاية كان الإنفصال بين سليم وزاهدة امراً محسوماً بعد سلسلة من العذابات مع ابنهم المُعذب ولا سيما بعد ان اعترف لها سليم خلال خيبتهم الكبرى في تركيا انه هو من قتل والدها عمداً للزواج بها وهذا الذي سقط فوق رؤسهم عقاب من الله على فعلته التي لم ولن يسامح نفسه عليها وتترك النهاية مفتوحة فحتى جابر المسكين المترقب لموته ليرتاح من عذابه ويريح اهله من شقاءهم وعذابهم لم يمت.

عرض مقالات: