اخر الاخبار

شهد مفهوم التطهير فلسفيا تنوعا في معانيه وتعددا في مجالات استخداماته دينية كانت أم فلسفية أم جمالية، وللاطلاع على مفهومه ينبغي دراسته دراسة اركيولوجيا تعنى بالأسس الفلسفية لهذا المصطلح، إن أول من تطرق للتطهير هو الفيلسوف (هيراقليطيس) عبر رفضه للعبادات السرية الأورفية والديونيسية، واشتراطتها في التطهير المعزز عن طريق الدم. ومن ثم تطرق إليه ( أبقراط ) وكان يعني به (التنقية أو التفريغ على المستوى الجسدي والعاطفي ) أما المدرسة الفيثاغورية، وعلى الرغم من أنها لم تبتعد في صياغاتِها لمفهومهِ في أن تتخلص تماما من النسيج الأسطوري إلا أنها قدمت له تبريرا عقليا، يقترب به نحو مرحلة التفكير الفلسفي الأخلاقي، إذ اتبعت نظاما خاصا للتطهير قائما على (تطهير مادي حسي، وتطهير روحي) فالأول يعنى بتطهير البدن بوساطة الرياضة، الطقوس والشعائر وصولا إلى  التحرر الجسدي، والثاني تطهير النفس عن طريق العلم الرياضي والموسيقى ففصلت بين النفس عن الجسد. ذهب (سقراط) إلى تأسيس مفهوم الجدل على وفق أسس أخلاقية وعقلية عبر أسلوب الاستجواب والحوار وصولا للمعرفة المرتبطة بالفضيلة، فالمعرفة لديه استرجاع لطبيعة النفس الخالدة، وهنا تجلى التطهير السقراطي في طبيعة النفس الخالدة في عالم الحس الأرضي، فالنفس تتطهر من الشوائب والانفعالات وصولا إلى عالم المثل عبر التطهير الذاتي.  وهنا اشارة واضحة في أنه يرفض التطهير العاطفي مبررا رفضه في ارتباط العقل بالمثل العليا وبالصورة الأصل، أما ما يحدث من تطهير في الفن المسرحي المرتكز على التشبيه المأساوي بالمثل، وما يسببها من آثار في النفس فما هو إلا تخدير وإيهام وابتعاد عن الحقيقة، فالتطهير لديه غاية معرفية. وقد انقسم التطهير عند سقراط إلى (تطهير عقلي غايته الأهم تحرير العقول وتطهيرها من الجهل عبر التهكم والتوليد، وبذلك يكون سقراط قد رفع التطهير إلى المجال المعرفي، من أجل بلوغ الحقيقة، فالحقيقة تطهر، أما النوع الآخر فتمثل بالتطهير الأخلاقي عبر ممارسة الفضيلة، والتمسك بها والسيطرة على الشهوات بالعقل، من أجل تحقيق السعادة التي تمثل الخير الأقصى. وقد وضع سقراط للفن دورا تطهيريا، لما له من قدرة على إصلاح النفوس وتهذيبها، وقد تأثر افلاطون بأستاذه سقراط مشجعا إياه نحو تأسيس نظرية المثل التي تعتقد بوجود عالم من الحقائق الخالدة أو صور منفصلة عن العالم لهذه الحقائق أو الصور وهي المثل وهي نظرية عقلية كلية تؤكد أنَّ الوعي أسبق إلى الوجود من المادة، وقد ذكر من خلالها افلاطون أن الفن هو تقليد التقليد فلا حاجة إليه. فلم يعط افلاطون اهتماما للتطهير العاطفي، إذ أنه ينحاز في مفهومه للتطهير نحو المتولد عن طريق الفكر رغم اعترافه (باللذة التي تتولد في المسرح)، ولكنه يحيلها إلى لذة ممزوجة بالألم والحزن، فالمشاهد في التراجيديا يبكي ويشعر فيه باللذة والفرح، وذات الحال بالنسبة للكوميديا لكنه يرفضها لأنها ممزوجة بالألم موجها نظره إلى لذة يقينية هي اللذة الرياضية البحتة.

عودة إلى سقراط الذي تناول التطهير ضمن مفهومين أحدهما عقلي والآخر عاطفي وهو ما استثمره أرسطو بعد أن صنفه كغاية للتراجيديا وتأثيرها النفسي والسلوكي، إذ ربط أرسطو بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل، ورأى أنَّ التطهير هو عملية تنقية وتفريغ لشحنة الانفعال عند المتلقي عند مشاهدة العنف، فالتطهير لدى أرسطو يشكل وسيلة لتحقيق المتعة للمتلقي، يعد أول من صاغ التطهير بمعناه الفني والانفعالي، أما في عهد الحداثة والتحولات الفكرية من المبدأ الميتافيزيقي نحو عالم الواقع العقلي وتحول مفهوم العلاقة بين الذات والموضوع إلى مستوى الموقف العقلي للإنسان بوصفه منتجا للمعرفة، برز الخطاب الفلسفي العقلي لـ (بيكون)، داعيا إلى تخليص العقل من الأوهام حتى يستطيع أن يتخلص من صور الماضي عبر إيمانه بالعلم بوصفه الوسيلة الوحيدة للنهوض بواقع الإنسان التي ستفضي إلى تطهير علمي غرضه الأساس رفع الحجب الداخلة في الذات واضاءتها بالمعرفة والعلم، وهنا نجد أن مفهوم التطهير رغم تأسيسه على أساس عقلي إلا أنه اتخذ منحى أخر على يد(ارسطو) وهو يحيله إلى نتيجة وغاية في التراجيديا، لُينصب نفسه منظرا تطهيريا له الريادة في مجال الدراما، حتى ألقت الفلسفات التنويرية بطروحاتها المعارضة للمثالية وأحكامها المطلقة فاتحة الباب للعقل والذات عن طريق العلم والمعرفة، فكان لمفهوم التطهير حصته من هذه التحولات التي أعادت له شطرا غُيّب في الدراما الأرسطية وهو التطهير العقلي.

  ارتكز بريخت في طروحاته على مرتكزات الفلسفة الماركسية المستندة إلى (إظهار الصراع بين التناقضات الاجتماعية. فالماركسية تقدم تصوراً جديداً للفلسفة والوعي الإنساني من منظور أن العقل مجرد إنتاج للطبيعة، أو انعكاس لها رافضة بذلك الثنائيات المثالية. وبهذا فقد تأسس الفكر الماركسي على حتميتين هما (الحتمية الجدلية، والحتمية التاريخية) فضلا عن نظرية الانعكاس التي شكلت أساس الفلسفة الماركسية، أذ تنطلق فكرة الحتمية من واقعة الحدث المستقبلي الذي يكون ضمن دائرة التوقع الافتراضي بحكم مجموعة معطيات تعطي مشروعية الحتمية وصحة حدثها وان كان مستقبلا، ويعزو الماركسيون منطلقاتهم في تعين الحتميات على أطر علمية لا تقبل الجدل كونها أقرب إلى الرياضيات ومن هذه الحتميات: 

     من خلال حتمية النمو والتطور والتقدم بالإنسانية المرهونة بالوعي ومعرفة الانسان الفرد في كونه جزءا فاعلا من الكيان الأممي الشامل، وأن سلوك الفرد ينحصر في سلوك المجتمع ويذوب فيه ولهذا فتربية الفرد وتطبيق لسلوكياته الثورية المجابهة على نحو(محايث) مع هذه التربية هو أساس نمو المجتمع او انتكاسته. فيظهر هنا أن هدف

ماركس هو هدف علمي، وان التطهير ناتج لتفاعلات مادية مع الإرادة الاجتماعية، وأن التطهير يتخذ جانب التربية الاجتماعية للفرد، بتكريس قيم نكران الذات، والانتماء للآخر لأجل التغيير، فهو يقترن مع الهدف وصولا للتغيير معتمدا على المغايرة في دور المتلقي من السلبية نحو التلقي الايجابي الذي يوصل إلى فعل التثوير والتغيير، فالتطهير هنا ميزة عقلية لا عاطفية. وأن تطهير الفرد يعتمد على إتمام مصلحة المجتمع وهذا ما ذهب إليه (المخرج الالماني برتولد بريخت) المعروف بميوله الماركسية في انتهاجه للتطهير العقلي عبر مبدأ التغريب وكسر الإيهام.

عرض مقالات: