اخر الاخبار

يذكر بول بريمر، الحاكم الأمريكي للعراق بعد احتلاله عام 2003، في كتابه (عام قضيته في العراق)، بأن غوناداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي، كانت قد حذرته في مكالمة أخيرة لها معه، من التوترات الطائفية والعرقية التي ستطفو بعد الإحتلال، فرد عليها هو، بأن ذلك أمر حسن، لأنه سيجعلنا نبدو وكأننا جئنا حماةً لوحدة العراق! فما الذي عمله بريمر مع تحذير رايس، حين دخل قصر الدكتاتور صدام وجلس على عرشه؟ وما الذي رآه؟

العراقيون عند الاحتلال

تكشف لنا أية نظرة موضوعية للظروف التي عاشها العراقيون قبل وبعد 2003، مدى الحيرة والدهشة التي أطبقت عليهم، حيث راحوا يتأرجحون بين ما أزاحه المحتلون، من ماضِ مثقل بذكرى أبنائهم المفرومين في مسالخ البعث، أو المختنقين بالغازات، أو المدفونين أحياءً في المقابر الجماعية، وبين ما جاؤا به من حاضر، يسلب فيه الإرهاب أرواح أطفالهم، وينخر الجوع أجسادهم، ويملأ اليورانيوم المنضب رئاتهم، ويئد اللصوص وأساطين الفساد الإداري وسياط السلاح المنفلت ما تبقى لهم من حلم، في ظل البطالة والفقر والتدهور المريع في الخدمات وغياب الأمن والقصور المزمن في مستلزمات الحياة الأدمية كالوقود والكهرباء والتعليم والصحة والنظافة وغيرها. 

ولم يمض وقت طويل، على تلك الحيرة، حتى شُرعن الاحتلال على الضد من القانون الدولي، وهيمنت احتلالات أخرى مستترة. وصار جلياً بأن المحتلين جبهة واحدة، رغم إختلاف سحنهم وبرامجهم ومواعيد صلواتهم، يسعون لأدامة حالة التشتت التي يعيشها المجتمع بغية إبقاء البلاد ضعيفة في مركزها قوية في أطرافها، تتجاذبها إستقطابات مختلفة، لا تدعها تستعيد عافيتها. احتلالات أذكت أستقطاباً طائفياً ذا مخالب عنيفة، وخطاباً سياسياً متخلفاً وانعزالياً، واستقطابا اثنيا، تعكز على عقود من الإضطهاد القومي والاجتماعي. وكان من نتيجة هذا، انزواء الهوية العراقية الجامعة، بحيث منح 50 في المائة من العراقيين ولاءهم للطائفة مقابل بقاء 30 في المائة على ولائهم للوطن، مفسحاً في المجال لبريمر ليتمكن من «الوفاء» بوعده لسيدته رايس.  

خديعة التحرير والديمقراطية

واليوم، حيث تحل الذكرى العشرون للغزو، لم يعد خافياً على أحد، بما فيهم من توهم بأن للدبابات الأمريكية طعم الحرية، من أن الاحتلال هو المسؤول الرئيسي عن تفكيك الدولة العراقية والقضاء على مؤسساتها، مخفقاً عن عمد أو عجز، عن احلال سلطة بديلة تعيد تركيب الدولة التي فُككت، وأنه لم يعر عمداً أي إهتمام للفوضى التي خلقها، لأنها ببساطة، أمنت له مشـــروعه الأستراتيجي القاضي بإعادة بناء الأمن الإقليمي على قاعدة الحماية العسكرية الأمريكية، وهيمنة شركاتها على الاقتصاد والتحكم في آليات إنتاج الطاقة وتصديرها، وإعاقة حرية الدول في بناء علاقاتھا الاقتصادية واختيار تحالفاتھا السياسية، و تكييف اقتصاديات دول الجنوب المتخلف بما يتوافق ومصالح العولمة المتوحشة، وربطها بأسواق إقليمية تابعة للاحتكارات الأمريكية، ونهب ثرواتھا الوطنية.

ولم تكن استراتيجية الأمن القومي، التي قدمها رامسفيلد وأقرت في سبتمبر 2002، سوى تمهيد لذلك، حيث حددت الأهداف، بتأمين أنظمة «الحلفاء والأصدقاء» وإجبار الخصوم على التخلي عن أية سياسات قد «تھدد» المصالح الأمريكية، وردعهم بفرض عقوبات شديدة أو بضربات استباقية، على أن تحافظ الولايات المتحدة على التفوق العسكري لضمان ذلك.

وكان العراق، في ظل نظام الدكتاتور، كما يبدو، الدولة الأنسب ليتحول إلى مختبر تنفذ فيه الإستراتيجية الأمريكية مشاريعها، جراء ما أضفته النزعات التوسعية العدوانية للنظام وميوله القومية المتطرفة وتهديده لمصادر الطاقة في المنطقة، من «مصداقية» على ادعاءات واشنطن بحماية السلم العالمي، وما منحته طبيعته الإستبدادية، ذات السمات الفاشية، من «مصداقية» للادعاءات الأمريكية من أن حربها تستهدف تحقيق الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان، وأخيرا بسبب تمتعه بثروة نفطية كبيرة وبموقع إستراتيجي متميز.

مواقف مشرّفة

منذ أن أدخل النظام الصدامي بلادنا في سلسلة من الحروب، تميز موقف الحزب الشيوعي العراقي ـ الذي كان مناضلاً صلداً وعنيداً ضد الدكتاتورية البعثفاشية ـ بشعاره الشهير لا للحرب، لا للدكتاتورية. فإبان الثمانينات، ناضل الحزب لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية، دون أن يقع في أوهام ثنائيات، كانت تشترط تواصل الحرب حتى سقوط الدكتاتورية أو كانت تريد مهادنة النظام حتى تنتهي الحرب. وعلى ضوء هذا الشعار، رفض الحزب ـ متفرداً لوحده تقريباً بين معارضي نظام صدام ـ التدخل الأجنبي لإسقاطه، وعمد إلى مقاطعة أي نشاط معارض يتناغم مع هذا المشروع، فرفض المشاركة في مؤتمر لندن للمعارضة (أواخر عام 2002)، الذي عقد بإشراف أمريكي، لأنه إستهدف شرعنة التدخل ومهّد لإقامة نظام محاصصة قومية وأثنية، وتحويل الصراع الاجتماعي والنضال الوطني إلى صراعات قومية ودينية وطائفية. وطالب الحزب بترك مهمة إسقاط الدكتاتورية إلى الشعب العراقي وقواه السياسية، وسعى لاقامة تحالف وطني واسع، ولاستنهاض الجيش وعامة القوات المسلحة، كي ينجز العراقيون عملية التغيير بأيديهم، وكي يمكن بالتالي استبعاد الحرب وويلاتها.

وحين وقعت الحرب، طالب الحزب بإنهائها، وطرح مشاريع وطنية عديدة لجلاء الاحتلال وإقامة حكومة إنتقالية، تسن دستوراً ديمقراطياً للبلاد وتجري إنتخابات تؤسس لنظام جديد، إلا أن محاولاته فشلت، لأنها كانت مناقضة لمشروع المحتلين، الذين تمّكنوا من «إقناع» الآخرين بعدم التعاون معه أو تأييد مشاريعه في الإستقلال وجلاء المحتل والديمقراطية.

وأدت التطورات إلى بروز مهمة أساسية مزدوجة، أمام الشيوعيين، يتلازم فيها الوطني مع الديمقراطي، والسياسي مع الاجتماعي، أي إنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الكاملة من جهة، وإعادة بناء الدولة العراقية على أسس دستورية ديمقراطية اتحادية وتحقيق تنمية اجتماعية – اقتصادية وضمان رفاه المواطنين من جهة أخرى.

وبسبب الظروف الذاتية للشيوعيين والديمقراطيين، الذين كانوا قد خرجوا للتو من عقود من قمع فاشي تعرضت له منظماتهم وجماهيرهم، والظروف الموضوعية التي اختلطت فيها أوراق عديدة، أضرت كثيراً باللحمة الوطنية، تجاوب الحزب مع دعوات للمشاركة في مجلس الحكم، منها دعوة من الأمم المتحدة (كشف عنها قبل أيام السفير غسان سلامة لمحطة روسيا اليوم)، معتبراً المشاركة إتماماً لمسؤوليته الوطنية وشكلاً للمواجهة، فرضته وقائع التطور السياسي في البلاد، وخاصة الخلل الجليّ في ميزان القوى بين الشعب والاحتلال، وقيام فراغ أمني وسياسي مخيف وتفاقم الإستقطابات الطائفية والقومية وبدء ملامح حرب أهلية.

وفي خضم الصراع لتحقيق الإستقلال والخلاص من كل أشكال الإحتلال، المباشرة منها وغير المباشرة، واصل الحزب مساهمته في العملية السياسية وساهم في جميع مؤسساتها، وتحدى المحتلين والإرهابيين وعمل على إفشال مساعيهم للقضاء على مشروع تأسيس نظام ديمقراطي تعددي وفيدرالي، كما واصل نضاله الجماهيري وما يزال ضد نظام المحاصصة والفساد، الذي هيمن عبر شرعية إنتخابية مزيفة على السلطة، وإشترك بكل قوة في إنتفاضة تشرين الباسلة وفي كل نشاطات الحراك الشعبي في جميع أرجاء البلاد.

 العراق اليوم

لقد مرت بلادنا، خلال العقدين الماضين، في ظروف قاسية، هددت وجودها كدولة، وأدت إلى خسارتها لمئات الآلاف من أبنائها وضياع مليارات الدولارات من ثرواتها، ناهيك عن عجزها على تأمين الإستقرار السياسي، والخلاص من إقتصادها الريعي المتخلف. ورغم إنسحاب المحتلين والقضاء على الإرهاب  وإجراء إنتخابات تشريعية ومحلية، فإن إستقلال العراق وسيادته الوطنية ومستوى تمتعه بالديمقراطية وآفاق تطوره، ما زالت موضع شك كبير، يثيره تواصل الصراع حول مسارات هذا التطور، والأزمة الشاملة التي يتخبط فيها نظامه السياسي، الذي شوّه الديمقراطية وخرب مؤسساتها وحمى الفساد وكرس السلاح المنفلت خارج إطار الدولة، وتبنى اقتصاد السوق والخصخصة، وفتح الأبواب أمام الاستيراد، فأضعف المنتج الوطني والقطاع الخاص، وفاقم التفاوتات الاجتماعية وعمق الفرز الطبقي والاجتماعي، حتى صار أكثر من ثلث العراقيين يعيشون تحت مستوى الفقر، في بلاد تنتج 4.5 مليون برميل من النفط يومياً، ولم يعد هناك أفق إلا بالتغيير الشامل.

لن يموت الحلم

في ذكرى الحرب والسقوط، تحضرني لقطة من فيلم، يلتقي فيها بطلان من أبطال المقاومة الألمانية ضد النازية، قس بروتستاني ومناضل شيوعي، ليدعو الجنود الألمان إلى التخلي عن هتلر وإنهاء القتال. يقول القس: إستسلموا، لقد سقطت برلين وإنتهت المانيا، ويقول الشيوعي: وجهّوا بنادقكم لصدور الفاشست، كي تنهض وتعيش المانيا من جديد»!

عرض مقالات: