اخر الاخبار

لم يختطّ لي شارب، وما اخشوشن صوتي بعدُ، يوم رأيتُ راياتهم حمراً كما هي الدماء التي سالت ممَّن قدّموا من الشهداء، لم تكُ تعنيني أنشودة بصوتهم الجماعي كانوا يُردّدون، (سنمضي، سنمضي، وماذا نُريد؛ وطنٌ حرٌّ وشعبٌ سعيد)؛ فكل مفردة فيها تحتاج لقاموس يشرح أبعاد ما تعنيه، وهو ما تجاوز مدى استيعابي لها ذلك اليوم؛ وأنا ابن خمس آنذاك، ساعة كان المُشاع أنَّ الملك قد تم قتله، وأنَّ زعيماً قام مقامه في الحكم، وما أدراني ما الفرق بين الملك والزعيم، وأنا لم أرَ صورة الأول إلّا على (العانة) ذات الأربع من الفلوس وهي في صرّة جدتي، تفتحها بين الفينة والأخرى ليشمّ الهواء ما تحويه من دراهم معدودات؛ غير أنِّي كنت قد رأيت جمعاً من الحفاة في ساحة مدرستي، بأيديهم أوراق بها يُلوّحون، ويرقصون على أنغام أهازيج تُمجّد الثورة، وتُحيّي زعيمها عبد الكريم، أفهمَني زميلي الأكبر مني سنّاً أنها عقود حرَّرت الفلاحين من سلطة أشخاص كانوا لهم تابعين، يستحوذون على ثلثي ما يحصدون من المحصول، وأنَّ المستوصف الصحي في الناحية؛ يشغله الآن موظف صحي بعد أن كان الفرّاش قائما مقام الطبيب.

من يومها اعتدت على أنْ أقابل في كل مكان وجوهاً لم آلفها من قبل، أو بالأحرى قد رأيتُها؛ لكنَّها اليوم ليست كما كانت تبدو لي بالأمس، في مجلس والدي اليومي، في المدرسة، والشارع، وفي الساحات، لأول مرة أسمع تعبير العامل والفلاح، وماذا يعنيه كل منهما، شابات وشباب متطوعون في تعليم القراءة والكتابة للأميّين، وما أكثرهم آنذاك! علمتُ من صديق والدي الفلاح أنَّه لم يستدنْ هذا العام قبل موسم الحصاد كما كلّ عام، لأول مرة لاح لي منظر الرجال والنساء معاً ببدلاتهم الزرق، قرأتُ على صدورهم أنَّه عيد العمّال، أمّا معلّمي الذي كان محبوباً من الجميع برفعة أخلاقه؛ فقد سمعتُ همساً أنَّه (شيوعي)، فهرعتُ وأنا أعظّ (دشداشتي البازة المُقلّمة) إلى البيت ليس ككلّ مرة أبشرهم بأني رفعتُ العلم الجديد وقرأت النشيد بصوتي الجهوري؛ بل أبحث عن خالي الذي اكتشفت فيما بعد أنَّه مثل معلمي (شيوعي) نال في سنين قادمة نصيبه من السجن والتعذيب والفصل الوظيفي، أيام حكم الزعيم عام  1960 إثر مظاهرة رفعت شعار (السلم في كردستان)، وإبان  انقلاب شباط الأسود عام 1963 الذي أطاح بالثورة والزعيم، وسفك دماء الماضلين من الشيوعيين؛ أبحث عن معنى (الشيوعي) وأول ما سمعت منه: (الشيوعية أخلاق أولاً، ودفاع عنها، والتضحية من أجلها)، وراح يشرح لي، وأنا مُصغٍ له باهتمام طفل غير عادي؛ ما يعني ذلك بالتفصيل.

رحتُ أفتّشُ عن تلك الأخلاق في كل شخص أراه، في أدقّ التفاصيل، وصارت مقاييس أخلاق الشيوعيّين معياراً على أساسه أميّز الأخيار من الأشرار، أنْ تضمر الخير وتفعله لكل الناس على السواء، وتؤمن أنَّ الوطن خيمة للجميع لا بأس أنْ مِن أجله تضحي بالغالي والنفيس، وحين يفيض من مخزون بيتك من طعام فإن جارك أو صديقك المحتاج أولى به، أمَّا الحبّ لكل الناس بلا حدود ولا قيود؛ فهو رأسمال أولئك الشيوعيين.

ذلك ما استوعبه عقل طفل ظل باحثاً عن الحقيقة حتى زار بيتهم (رأس المال) وعلى غلافه رجل بلحية تشبه لحية جدّه الذي لم تره عيناه، وقد تناهى لسمعه في البيت أنه، أي جدّه، كان شيوعيّاً بالفطرة، يتفقّد الأرامل والأيتام تحت جنح الظلام كي يوزع ما فاض في مخباته من الحبوب والتمر؛ ومن هذا المُلتحي الجديد تعلّم ما يعنيه الوطن الحرّ والشعب السعيد، وأنّ الشيوعية هي الصورة الأكمل للأخلاق، وهي مستقبل العالم حتماً عندما لا يكون مصيراً للرأسمالية سوى الانهيار بعد ما تواجه من أزمات تنشأ من طبيعة تركيبها المبني على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.

 من يومها اتخذتُ الشيوعيّة ديناً به أعتزّ، ولا أهل لي سوى الشيوعيّين، مهما واجهوا من تحديات، وما حيك ضدهم من مؤامرات.

عرض مقالات: