اخر الاخبار

لو أجبنا عن هذا السؤال بكلمتين لقلنا: لأنه لا يفهم روسيا! كما كتب الشاعر الكلاسيكي الروسي المعروف فيودور تيوتجيف والذي سنأتي على ذكره أدناه.

هناك القلة من يفهم ويعرف ماهية الروح الروسية. ولغرض معرفة هذه الظاهرة على المرء برأيي أن يولد ويعيش في روسيا كي يتعرف على حياتها وطبائعها وتقاليدها وتاريخها المليء بمختلف الأحداث.

إن اهم ما يميز الخلق الروسي: سعة الروح، والصلابة والثبات، والشفقة والرأفة بالآخرين، والوداعة، والسعي من أجل العدالة، والجماعية، والقدرة على التضحية وعدم الاستسلام. وهناك مزايا بعيدة عن هذا الخلق ولا يستسيغها الروس مثل الكبرياء والغطرسة والنفاق والكذب.

وقد برز الطابع القومي الروسي عبر قرون بتأثيرعوامل عدة مثل المناخ القاسي لشمال أوروبا الآسيوية ذات المناخ الشتوي القاسي والتغيرات الفصلية الشديدة والطابع الأثني المتعدد للدولة والتضحية من أجل الوطن وضرورة الدفاع عن الحدود الخارجية الواسعة. ولعبت الكنيسة الأرثودوكسية الروسية دورا كبيرا في ترسيخ هذا الطابع وأصبحت أساسا عقيدة ثابتة لروسيا خلال قرون.

وخير من كتب عن الأصالة الروسية هذه الشاعر الروسي البارز والمفكر والدبلوماسي والكاتب الاجتماعي المحافظ فيودور تيوتجيف (1803 – 1873). وقد كتب عن الطبيعة والخلق والحب والصداقة والأحداث السياسية، وكان من ممثلي العصر الذهبي للشعر الروسي.

وأن أهم ما اشتهر به تيوتجيف رباعياته الشعرية التي كتبها في تشرين الثاني عام 1866 وأصبحت بمثابة أمثلة شعبية يقتدي بها الروس لحد هذا اليوم، وهنا سنحاول إعطاء المعنى العميق لهذه الرباعية المشهورة. وقد كتب:

“لا يمكن فهم روسيا بالعقل،                                              

ولا يمكن قياسها بمقياس واحد،

فلها مقام خاص،

ولكن يمكن الإيمان بروسيا فقط” ... وإلى آخر الرباعية.

والرباعية هذه تعبير عن عدم إمكانية التنبؤ بروسيا وشعبها وهو ما يحير الغرب. ويضيف تيوتجيف: روسيا أمة فريدة من نوعها ولها أصالتها الخاصة، وهي موجودة بفضل إيمان شعبها بها، وحين يضيع هذا الإيمان تنهار البلاد بسرعة.

وفي الواقع هناك الكثير من الأحداث في تاريخ روسيا القومي من الصعب فهمها واستيعابها. فقد اجتازت روسيا عبر غزوات القبائل المترحلة والتبعية والارتباط بالخان المغولي وعبر الكثير من الحروب، وعاشت العديد من الانتصارات والهزائم.

لكن كل هذه الأحداث عجزت عن كسر شوكة الشعب الروسي، فهو مسلح دائما بالوطنية والحب للوطن، لهذا فهو مستعد للدفاع عنه بأي ثمن. وليس المواطنون في كل دولة متطورة اقتصاديا وبمستوى معيشي عال قادرون على إبداء مثل هذه الوطنية والرجولة.

ورغم أن ظروف العيش لأغلب المواطنين الروس ليست بالمستوى المطلوب إلا أن هؤلاء مستعدون من أجل التضحية والحفاظ على الوطن والدفاع عنه لئلا يقع بلدهم بيد الأعداء. وهذه الظاهرة من الصعب توضيحها وفهمها وبفضلها (لا يمكن فهم روسيا بالعقل – تيوتجيف). وهناك العديد من الكتاب والشعراء تطرقوا إلى موضوع الشجاعة والرجولة غير الاعتيادية والمسؤولية أمام الوطن وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية.

ولكن ما الذي كان يقصده تيوتجيف في رباعياته؟ كان يقصد انه يجب الشعور بالأصالة العميقة للوطن، وهذه الأصالة لا يجري معرفتها، إنما الشعور والاحساس بها، وهي لا يمكن تحليلها ووضعها في صف واحد مع الأصالات الأخرى وتقيييمها بلا تحيز. وهذا الوطن بيتنا ونكن الحب له بغض النظر عن كل شيء.

لذا فان من يريد أن يفهم روسيا عليه أن يشعر ويحس بها وأن يرتبط معها بأواصر روحية. فالعقل لوحده ليس بإمكانه أن يحتضن كل الأصالة الوطنية للوطن الفسيح والمعقد في اختلاف أشكاله. يجب الاحساس بالقرابة معه والخوض في خصوصية عقليته من أجل ايجاد ذلك المقياس الذي بإمكانه أن يقيس هذه الخصوصية.

لكن شعر تيوتجيف الرباعي المذكور له معناه العميق ويصف بدقة خصوصية روسيا وشعبها. وبحكم إقامة الشاعر في الغرب فترة طويلة والخدمة في العمل الدبلوماسي كان على معرفة جيدة بنمط حياة العديد من البلدان الأوروبية والذي كان يعتبره نموذجا ومقبولا للتقليد. ومع ذلك وجد الشاعر هذه الحياة رتيبة وتافهة بشكل مفرط، خالية من المعنى ويمكن التنبؤ بها بسرعة. وكان يفكر بهذا الوضع: لماذا في أوروبا المتطورة والمتقدمة ينعدم في نفوس الناس ذلك الوهج الذي يتميز به الروس. وبدا أن الحياة غير الملائمة والعدمية والأمراض كان بإمكانها أن لا تؤدي فقط إلى القضاء على سكان روسيا، إنما إلى دمار البلاد بالكامل ايضا. لكن الأحداث تتطور بالعكس تماما: فأوروبا بحياتها الميسورة بدأت تنحط تدريجيا، وروسيا المبتلية بفقرها الدائم أخذت تزيد ليس فقط من تطورها الاقتصادي انما تعطي للعالم عقولا عظيمة تنحدر من الشعب.

ويشير تيوتجيف إلى أنه “لا يمكن قياس روسيا بمقياس واحد “ويعني بذلك أصالة الشعب الروسي التي لا تنصاع للمنطق الأوروبي وتثير لدى الأجانب رعبا مخيفا. ويجري الحديث بالدرجة الأولى عن الروح الروسية الخفية وعن شكل أفكار الروس العجيبة والتي لا تتلاءم مع الفهم العالمي العام. وهذه الصفة برأي تيوتجيف بالذات هي الأكثر أهمية وتقديرا ولأنها ضمانة لعدم جمود الشعب الروسي مثل الأوربيين في مساعيه الضيقة، بل أن حب الاستطلاع والسعي المولود نحو المعرفة سيمليان على الأمة التحرك نحو التطور حتى في أصعب وأحلك الظروف.

أما تعبير “ولها مقام خاص – ولكن يمكن الإيمان بروسيا فقط “فالشاعر يصل إلى خلاصة أفكاره الطويلة ومحاولة فهم ظاهرة بلاده الخاصة ويقول: “وفي الواقع لا يمكن التنبؤ بروسيا، وميزتها الوطنية هذه تضع حدا لخطط العديد من الأوروبيين الطموحة الذين حاولوا قهر روسيا منذ القدم ولم يتسن لهم فهمها. بالإضافة إلى ذلك ليس بإمكان الروس أنفسهم الإجابة عن السؤال: ماذا ينتظرهم بعد سنة او سنتين، فالحياة تتغير باستمرار، في حين أن حساسية الخمول غريبة على الروح السلافية. لذا فان كل ما يبقى هو الإيمان بالدولة التي تمتلك العظمة لأن التنبؤ بالخطوة التي ستخطوها لاحقا ليس بمقدور حتى الروس أنفسهم التنبؤ بها”.

ويجب الاشارة إلى أن كلمات تيوتجيف بهذا الصدد بدت من قبيل النبوءة على أساس أن جميع الأحداث المتوالية التي جرت في روسيا على مدى قرن ونصف كانت تزعج المجتمع العالمي باستمرار. لهذا ليس من الغريب أن حتى المستشار الألماني السابق أوتو فون بيسمارك حذر مواطنيه في منتصف القرن التاسع عشر من الحرب مع روسيا، مؤكدا على “ أن روسيا سترد على كل حيلة عسكرية بغباء بعيد الاحتمال ومع ذلك تبقى هي في عداد المنتصرين “.

وقد وجدت رباعية تيوتجيف انعكاسها خلال الحرب العالمية الثانية ايضا، حيث كان للجيش الأحمر السوفيتي شأن عظيم في تحرير بلدان الاتحاد السوفيتي وأوروبا بأجمعها من نير وفاشية ألمانيا الهتلرية. وأبدى الجنود السوفيت من المآثر والبطولات والشجاعة والبسالة والتضحية (وهنا تكمن المعاني الخفية لرباعية تيوتجيف) ما لا يضاهيها بأي حال من الأحوال لدى القوات البريطانية والأمريكية التي دخلت المعارك (متأخرة ومنتظرة) لئلا يغزو الجيش الأحمر أوروبا بالكامل. والمعروف أن الاتحاد السوفيتي ضحى ب 28 مليون شخص من أجل هذا الانتصار العظيم وتخليص البشرية من نير النازية الألمانية.

   واليوم بدل رد الجميل لهذا الانتصار العظيم نرى أن النازية الجديدة بدأت ترفع رأسها من جديد، بدعم مباشر من أمريكا، في عدد من البلدان الأوروبية، خاصة في أوكرانيا وبلدان البلطيق لاتفيا وليتوانيا واستونيا، وبولندا وحتى في ألمانيا، تملأ وشوم رموز النازية صدورهم وأكتافهم، تجوب شوارع عواصمها حاملة المشاعل الهتلرية والأعلام النازية بمباركة من حكوماتهم ودون خجل أمام الضحايا السوفيتية الجسام التي سقطت من أجل تحرير بلدانهم. وذهبت أعمالهم الاجرامية إلى حد تهديم النصب التذكارية للأبطال والجنود السوفيت في بلدانهم ومحاربة الروس وحتى الثقافة الروسية العظيمة وتحريم اللغة الروسية ومنع الأحزاب المعارضة فيها من الحياة السياسية، خاصة الشيوعية واليسارية. هذا إلى جانب جعل بلدانهم رأس جسر وقواعد عسكرية لحلف الناتو لتهديد أمن واستقرار روسيا. فهل من دولة تقبل بهذا الوضع؟

بالإضافة إلى ذلك رفعوا رايات “معاداة الروس” بهستيرية لا مثيل لها تنم عن الحقد الدفين والكراهية لكل ما هو روسي. ولهذه الظاهرة البغيضة أسباب عديدة سنحاول التركيز على أبرزها.

لأن روسيا تنتهج سياسة داخلية وخارجية مستقلة تتناقض مع مصالح الغرب وتدعو إلى تغيير سياسة القطب الواحد، القائمة على الهيمنة والسيطرة وقيادة العالم، والعودة إلى سياسة تعدد الأقطاب التي يجري ترسيخا اليوم. وهناك عدد من البلدان تتبع مثل هذه السياسة مثل الصين والهند وكوريا الشمالية وتركيا وبيلاروسيا وغيرها.

ثانيا لأن روسيا تمتلك موارد طبيعية غزيرة لا تنضب تثير حسد الغرب الذي يضطر لشرائها بأموال ضخمة ويشعر بأنه مرتبط بروسيا رغم كراهيته لها. ويرى هذا الغرب أن على روسيا ان تتقاسم ثرواتها الضخمة مع بلدانه، كما صرحت في وقتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت والتي أكدت على أنه ليس من الانصاف أن ينعم بلد واحد مثل روسيا بكل هذه الثروات! وهنا ينطبق عليها المثل: طمعه قتله.

والسبب الآخر يكمن في القيم العائلية التقليدية الراسخة في روسيا والتي انحدرت من تقاليد أسلافهم الثابتة. لهذا يحاول الغرب بيأس تهديم هذه القيم ونقل قيمه المنحطة إلى المجتمع الروسي ولكن دون جدوى.

وأخيرا وهو السبب الرئيسي أن روسيا اصبحت موطنا للقيم العالمية التقليدية.

لهذه الأسباب يكرهون روسيا لأنها تختلف وليست مثل الأوروبيين ولا تدعم قيمهم ولديها ثقافتها ودينها الخاص ولا تريد أن تعيش مثلهم بأوامر تأتي من فوق.

هناك ظاهرة معينة نلاحظها دائما في معارك الغرب ضد روسيا، نراهم دائما يقفون مع الجانب الآخر من العالم المعادي لروسيا وحتى إذا كان هذا الجانب شيطانا! دائما يختارون النازيين والارهابيين والمتطرفين الدينيين وتجار المخدرات حلفاء لهم في مواجهتم لروسيا. وهذه قاعدة ثابتة لديهم.

هذا هو الأسلوب الذي يتبعه الغرب بقيادة أمريكا والأمثلة كثيرة على ذلك. ففي أربعينات القرن الماضي كان الغرب يمول هتلر ضد روسيا. وفي أواخر الأربعينات تحالف الغرب مع النازيين لتشكيل حلف الناتو. وفي الثمانينات وقف الغرب إلى جانب الارهابيين الأفغان وتجار المخدرات ضد روسيا. وفي تسعينات القرن الماضي انحاز الغرب إلى جانب الارهابيين وتجار المخدرات الألبان ضد الصرب. وفي عام 2010 وقف الغرب إلى جانب داعش ضد الحكومة السورية الشرعية.

وبشكل عام ترى النخب الأوروبية أن روسيا تمثل تهديدا أيديولوجيا وجوديا للنظام العالمي ذي القطب الواحد ولهذا يصممون على تدميرها بأي ثمن كان وحتى المخاطرة بتدمير الحضارة البشرية بالكامل، وهذا هو استمرار للسياسة الأنكلوساكسونية الغربية القديمة الداعية إلى التدمير الكامل للأمة الروسية، وكذلك استمرار للسياسات الامبريالية السابقة الهادفة لنهب واذلال الشعوب المكافحة من أجل تحررها وسعادة شعوبها.

ـــــــــــــــــــــــ

موسكو 10 / 3 / 2023

عرض مقالات: