اخر الاخبار

لم تمض سوى أيام قليلة على الغزو الروسي لأراضي جمهورية أوكرانيا، حتى فرضت الإدارة الأمريكية مجموعة عقوبات قاسية شملت عدداً من البنوك الروسية وعناصر في الحكومة وقنوات تصدير للإتحاد الروسي. ثم إستهدفت واشنطن كل ما يمكن أن يشّل عمل البنك المركزي الروسي فعملت على تجميد الأصول الروسية حول العالم، وإزالة المؤسسات المالية الروسية الرئيسة من نظام “سويفت” لخدمة الرسائل المالية العالمية.

وشكلت هذه الإجراءات جزءًا من سياسة العقوبات الاقتصادية، التي زادت بنسبة 250 في المائة خلال العقدين الأخيرين وشملت أكثر من 900 عنواناً، وذلك لفرض إرادة واشنطن على الأخرين، ومن أجل تنفيذ أو إخضاع “الحلفاء” لسياستها الخارجية، بغض النظر عن ما يخدم مصالحهم الوطنية. فنظرة سريعة لما آلت اليه الأوضاع الإقتصادية في أوربا من إرتفاع في التضخم وفي معدلات البطالة وتناقص في النمو، تؤكد سعي واشنطن لإستغلال المأساة الأوكرانية لفرض الهيمنة على أوربا، وتحويل حلف الناتو الى منقذ مقدس لدولها رغم ما سببه التحالف الأوربي مع واشنطن ضد موسكو، من خسائر اقتصادية تمثلت في تراجع الإنتاج الصناعي (وصل الى 20 في المائة في المانيا) وفي فرض ضرائب على شراء الطاقة بلغت 800 في المائة من كلفها الحقيقية.

وبسبب النظام الاقتصادي الدولي ( نظام العولمة المتوحشة)، تتحكم الولايات المتحدة، بسوق العملات الصعبة وبمعظم المراكز المالية الأساسية العالمية، وبأكثر من نصف الاقتصاد الدولي وبإنتاج السلع الحيوية والتقنيات المتطورة وبـ 65 في المائة من وسائل الدعاية والإعلام، وهو ما يجعلها قادرة على فرض العقوبات على أعدائها وخصومها وكذلك على من يفكر في التمرد ولا يطيع واشنطن، فخلق تحالف متعدد الأطراف (حتى لو كانت بعض الأطراف مجبرة على الإنخراط فيه)، يعد مهما لإطباق الخناق على المعاقَبين ومنع إفلاتهم من تأثير العقوبات، وفرض مكانة أقوى للعولمة الرأسمالية.

ولم تقتصر تعبئة الحلفاء على التهديد بالعقوبات وبالمصاعب الإقتصادية، بل أيضاً بالدور الكبير الذي لعبته الدوائر المخابراتية والدعائية والإعلامية، التي أرعبت شعوب وحكومات أوربية عديدة، كالدول الإسكندنافية، من مخاطر عدوان روسي، مما أحدث تحولاً في الرأي العام لصالح التعاون مع واشنطن والتهالك على الإنضمام لحلف الناتو، وهو ما ظهر جلياً في السويد وفنلندا. كما عمدت هذه الدوائر الى إضفاء “الشرعية” على مجمل السياسة الأمريكية المناهضة للغزو الروسي، وتصوير واشنطن بالملاك الوديع الذي يحمل الخبز والحرية لبني البشر! 

وتعمل واشنطن الى جانب التنسيق مع شركائها، على ربط العقوبات بسياسة خارجية محددة المعالم، وعلى تحليل متواصل لتأثيرات هذه العقوبات في تحقيق أهداف هذه السياسة. ولهذا إتسمت العقوبات في الأونة الأخيرة بسمات تقلل من تأثيراتها السلبية على من يفرضها، فالحصار على روسيا، لاينبغي أن يشمل النفط، كما كان الحال مع العراق وليبيا في التسعينات، لأن في ذلك إرتفاع حاد في أسعار الطاقة في الأسواق العالمية مما يضر بالولايات المتحدة وحلفائها، بل يجب أن يستمر تدفق النفط ولكن بسعر منخفض يقلل من دخل موسكو ويساهم في إخضاعها.

كما تم التعامل مع القانون الدولي والإتفاقيات العالمية التي طالما تبجحت واشنطن بدفاعها عنها، بدعوى إيمانهاً بحرية الأسواق وإستقلاليتها وبقدسية التجارة الحرة وحركة رؤوس الأموال، بشكل إنتقائي وبكثير من المعايير المزدوجة، مما حرم موسكو من أهم التقنيات المنتجة في اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، ومن ثروتها السيادية البالغة 630 مليار دولار ومن قدرتها على بيع النفط بالإسعار العالمية أو من الإمتناع عن بيعه.

ورغم رفض قوى العدالة والسلام في العالم، لغزو بوتين لأوكرانيا، وما يجري على أرض هذه البلاد من حرب بالنيابة، يدفع ثمنها الشعبان الروسي والأوكراني، فإن تواصل قوى العولمة الرأسمالية المتوحشة سياسات خوض الحروب بالنيابة وإشعال أراضي الأخرين تحت أقدامهم، وفرض العقوبات المخالفة للشرعية الدولية، وإستثمارها في تعطيل الدورات الإنتاجية للمختلفين معها والعمل على تفكيك تشكيلاتها الاجتماعية وخلق الفوضى في نسيجها الوطني وإعاقة نمو قواها الوطنية واليسارية بشكل خاص، وصولاً الى تحويلها لتابع في عجلة الرأسمال المعولم، يتطلب تعبئة الجهود للمواجهة وأقلها رفض تلك السياسة وإدانة اصحابها، وهذا أضعف الإيمان.

عرض مقالات: