اخر الاخبار

قضية سعر صرف الدينار مقابل الدولار في العراق، شغلت وتشغل العراقيين في جميع انحاء العراق، وعلى كل المستويات شعبية وحكومية، تنفيذية وتشريعية، لما لها من تأثير على مستوى المعيشة والموازنة الحكومية وتغطية احتياجاتها المالية. وقد عانى العراق من تذبذب سعر الصرف وتأثيراته القاسية على الحياة الاقتصادية لعامة الشعب لفترات طويلة، إلى ان تم اسقاط الصنم، وبدأت السياسة النقدية تلعب دورها في تثبيت سعر الصرف، بعد ان حصل البنك المركزي على استقلالية غير متكاملة في سياساته النقدية، مع ضعف، وفي أكثر الأحيان، غياب التناغم بين السياستين النقدية والمالية. وقد استغرق تثبيت سعر صرف الدينار مقابل الدولار على 1182 فترة طويلة استمرت لعدة سنوات. ومما ساعد على ذلك زيادة العائدات النفطية للعراق بين فترة وأخرى، وبذل الجهود الدولية لمساعدة العراق في حصر الديون الدولية وتخفيضها، إضافة إلى المساعدات الدولية السخية في إعادة اعمار العراق. الا ان العراق ابتدأ في زيادة التوجه نحو الانفاق الاستهلاكي، مع عدم التوجه نحو التنمية الاقتصادية الحقيقية، وزيادة الإنتاج المحلي، بهدف تخفيف الضغط على الموجودات النقدية بالعملات الأجنبية. وفي نفس الوقت لم تستطع الحكومات العراقية المتعاقبة من تحديد هوية الاقتصاد العراقي، ومن التخفيف من حدة الفوضى الاقتصادية، الضاربة اطنابها في السلوكية الاقتصادية. واشتد الصراع العنيف بين سياسة التوسع في الانفاق الاستهلاكي في إدارة المالية العامة، وبين الانكماش في السياسة النقدية - بين التوسع في الانفاق التشغيلي، استجابة للمتطلبات الانية، وبين عدم التوازن في سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والقصور في تحقيق تنمية الإنتاج المحلي - بين التوسع في العجز في الميزان التجاري، من غير الصادرات النفطية، وبين الحفاظ على استقرار سعر الصرف، العامل الأساسي في الاستقرار الاقتصادي.  إن تغيير سعر الصرف في نهاية عام 2020 كان مقترحا أساسيا في الورقة البيضاء التي اتفقت عليها الحكومة العراقية. ورغم الملاحظات الكبيرة بالغة الاهمية على هذه الورقة، الا انها استطاعت ان ترسم خطوطا عريضة للاقتصاد العراقي، بتفضيلها نظام اقتصاد السوق الحر، المنفلت، الذي لا ينسجم مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق. مع العلم ان الدستور العراقي قد نص على ان تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة، وبما يضمن استثمارا كاملا لموارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته. ودعت الورقة البيضاء إلى الغاء دور الدولة تقريبا في الاقتصاد، وهو المحرك الأساسي لعجلة الاقتصاد العراقي في الفترة السابقة والحالية. وكان اقتراح تغيير سعر الصرف بحجة تنمية الصادرات العراقية غير النفطية، لإنتاج غير متوفر. اما الهدف الأساسي الفعلي لتخفيض قيمة الدينار، فكان بشكل أساسي هو تعظيم الموارد المالية للخزينة، لتغطية بنود النفقات التشغيلية والجارية المتعاظمة، نتيجة للسياسات الاقتصادية الخاطئة للحكومات العراقية المتعاقبة. دون الالتفات إلى التكلفة الاجتماعية لاتخاذ مثل هذا القرار.

ورغم معارضة البنك المركزي على تخفيض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار، الا انه اجبر على اتخاذ مثل هذا القرار، بسبب الظروف التي تم خلقها في حينه. حيث ان وزارة المالية امتنعت عن بيع أي دولار إلى البنك المركزي بالسعر القديم، واصرت على بيعه بالسعر المقترح، ولمدة ثلاثة أشهر، وفي نفس الوقت تم نشر موقف الوزارة على شكل اشاعات، تم تعزيزها بتسريب قانون الموازنة واعتمادها على سعر صرف 1450 دينار مقابل كل دولار. وقد أدى ذلك إلى انتشار الفوضى في سوق الصرف، حيث وصل سعر الدولار إلى 1400- 1450 دينار. وأصبح البنك المركزي امام الامر الواقع، مما اضطره إلى اتخاذ مثل هذا القرار الصعب، الا انه، وفي نفس الوقت أكد على وزارة المالية، على ضرورة اتخاذ القرارات المناسبة لتخفيف العبء على الطبقات الهشة في المجتمع، والحد من التوسع في نفقات الموازنة التشغيلية، بل الطلب من الوزارة، وبالذات السيد وزير المالية، على تخفيضها وتجميدها، وبين مجالات التخفيض التي يمكن اللجوء اليها، والتي يمكن ان تحقق تخفيض حجم الموازنة، بحيث تتناسب مع الموارد المالية المتاحة، مما يفسح في المجال للحكومة في وضع حل لمشكلة العجز المالي، أكثر فاعلية من تخفيض قيمة الدينار العراقي، الذي سيؤدي إلى اضرار اجتماعية كبيرة، رغم الزيادة في موارد الموازنة. ورغم كل ذلك اقر مجلس النواب العراقي هذه الموازنة بسعر الصرف الجديد. وهذا ما أعطى الشرعية الكاملة للاعتراف بتخفيض سعر صرف الدينار.

ان تخفيض سعر صرف الدينار امام الدولار بمعدل يقرب من 23% يعني تخفيض القوة الشرائية لدخل الفرد العراقي بما يعادل هذه النسبة، ومن التجارب العالمية، من الممكن ان   ترتفع أكثر من هذا المعدل، وقد تصل نسبة التضخم في الأسعار بين 30% إلى 40%. الا ان الاحصائيات الرسمية لوزارة التخطيط قد اكدت ان نسبة التضخم لم تتعد نسبة 7%، رغم الظروف العالمية التي أدت إلى ارتفاع الأسعار العالمية لجميع المواد، وخصوصا المنتجات الزراعية، بنسبة تصل إلى حوالي 27%. وكان ذلك ناجم عن ثبات الكثير من أسعار السلع والخدمات المحلية، وخصوصا التي تقدمها الدولة، ووجود البطاقة التموينية، مع انخفاض حجم الطلب الكلي بسبب انخفاض القوة الشرائية، وتخفيض هامش الربح على السلع والخدمات الذي كان مغالا فيه. وفي نفس الوقت فان العراق يعتمد إلى درجة كبيرة على استيراد هذه السلع والخدمات، من دول تعرضت عملتها إلى تخفيض قيمتها بنسبة أكثر بكثير من تخفيض قيمة العملة العراقية، مما ساعد على تخفيض أسعار السلع والخدمات المستوردة، إضافة إلى التلاعب في مستوى جودة هذه السلع، من أجل تخفيض سعر البيع.   

ان الحسابات الأولية لنتائج موازنة 2021، وبسبب تخفيض سعر صرف الدينار، وارتفاع حجم الدين العام، وخصوصا الداخلي منه، غير المخطط له، وخلافا إلى المستوى الذي حدده قانون الإدارة المالية، قد ادى إلى إمكانية تغطية جميع النفقات التشغيلية، مع توفير بحدود 6 ترليون دينار، من المفروض تدويرها إلى موازنة السنة التالية. وقد بلغت الإيرادات النفطية لعام 2021 بحدود 76 مليار دولار، التي استطاعت ان توفر أكثر من 20 ترليون دينار، نتيجة لانخفاض سعر صرف الدينار. وفي نفس الوقت لجأت الحكومة إلى الاقتراض الداخلي بشكل أساسي، حيث بلغ اجمالي حجم الاقتراض الداخلي، حسب بيانات البنك المركزي، من تشرين الأول 2020 وحتى نهاية عام 2021 ما يقارب 18 ترليون دينار، منها حوالي 16 ترليون دينار عن طريق خصم حوالات لدى البنك المركزي. وقد أدى ذلك إلى بلوغ حجم الدين الداخلي، في نهاية عام 2021، إلى حوالي 70 ترليون دينار، منها حوالات مخصومة لدى البنك المركزي تبلغ أكثر من 44 ترليون دينار. كل هذه الأعباء التي تتحملها الموازنة العامة، هي في الواقع استنزاف كبير للموارد المالية، التي يعود قسم كبير منها للأجيال القادمة، التي ستثقلها هذه الديون. وكان السبب الأساسي في ذلك، هو غياب السياسة الاقتصادية الحكيمة، والتصرف غير الموزون في الموارد المالية، بسبب سوء الإدارة، وذلك بسبب تغليب سياسة التوسع في الانفاق التشغيلي، بشكل خاص، من اجل تحقيق المصالح الآنية الذاتية، وانتشار الفساد الإداري والمالي، مع تجاهل شبه كامل لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أساس التطور الاجتماعي والاقتصادي لكل بلد. وتجاهل كامل للتوزيع العادل للدخل.

 اما في عام 2022 فان المبالغ الإضافية، التي تم توفيرها للموازنة نتيجة تخفيض قيمة الدينار العراقي وارتفاع الموارد النفطية إلى أكثر من 100 مليار دولار، فقد بلغت حوالي 27 ترليون دينار لغاية نهاية شهر تشرين الأول، حسب الأرقام الأولية لوزارة النفط. وإذا ما افترضنا ان اجمالي الموارد النفطية لهذا العام بحدها الأدنى ستبلغ 114 مليار دولار، فان اجمالي التوفير سيكون حوالي 31 ترليون دينار. فهل من مصلحة الحكومة الجديدة بأعبائها الكبيرة التي أخذتها على عاتقها، بما في ذلك محاولتها لتخفيف العبء عن الفئات الهشة من المجتمع، وتحقيق التوسع في بعض النفقات التشغيلية، لتحقيق بعض الحلول الآنية للتخفيف من حجم البطالة، مع محاولة تنمية بعض القطاعات الإنتاجية المهمة في المجالين الصناعي والزراعي إضافة إلى القطاعات الخدمية. 

ومع كل ذلك، ورغم اعتراف الجميع بحقيقة تخفيض قيمة الدينار، واضفاء الشرعية على ذلك من قبل مجلس النواب العراقي، ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات تنادي بعودة قيمة الدينار العراقي إلى ما كان عليه سابقا، أو زيادة قيمته بنسب معينة، دون الالتفات إلى ما يسببه ذلك من اضطراب كبير في أسواق الصرف، وإلى فقدان الثقة بالدينار العراقي، وإلى فقدان الاستقرار الاقتصادي، الذي هو أساس التنمية. ان مجرد التصريح بالرغبة في زيادة قيمة الدينار، وخلال ساعات قليلة، أدى إلى اضطراب كبير داخل المجتمع وفي الأسواق، ولم يؤثر ذلك على تخفيض الأسعار، رغم ارتفاع قيمة الدينار في سوق الصرف. ان تدخل السياسة في هذه الأمور ورقصها على أنغام الاحتجاجات الجماهيرية، لتحقيق مكاسب ذاتية شعبوية، قد يؤدي إلى نتائج وخيمة على الاقتصاد العراقي من الصعب التغلب عليها، او اصلاح ما تلف منها. ان توضيحات السيد رئيس مجلس الوزراء حول موقفه من عملية تغيير سعر الصرف، وتصريحات السيدة وزيرة المالية الجديدة حول ثبات سعر الصرف في موازنة 2023، وحسنا فعلوا، مع إصرار البنك المركزي على موقفه من تغيير سعر الصرف، قد ساعد وبشكل سريع جدا، على عودة سعر الصرف إلى ما كان عليه، واستقراره. ونأمل من السياسيين الذين يدعون حرصهم على مصالح الشعب وفئاته الهشة، وحرصهم على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والذين قاموا بإنفاق المليارات الكثيرة من عائدات النفط والعوائد الأخرى، على المصالح الذاتية لهم ولأحزابهم والتابعين لهم، ان يأخذوا عبرة بما سببوه من انهيار في الاقتصاد العراقي، وتدهور في مستوى المعيشة لغالبية الشعب العراقي، وان يبتعدوا عن التصريحات الشعبوية الرنانة غير المسؤولة.

عرض مقالات: