اخر الاخبار

زورق خفاق الشراع , يواجه الريح فتنشطر إلى جانبيه, شراع صاريه عال, وكأن له عيوناً ترنو إلى الضفاف التي تروم، ولا تريم إلى سواها, فتى السبعينيات؛ عدنان منشد؛ هكذا كان زورقاً يمخر عباب الأيام الجميلة مزهواً بها ومزهوة به, فكيف تخطئه العيون ؟!

الفتى الجنوبي فارع الطول، بسحنة سمراء فاترة وشعر كثيف انسدل إلى الخلف متمثلاً موضة السبعينيات، يجوب طرق العاصمة التي انصتت جاداتها إلى وقع خطاه منذ حل بها مطلع السبعينيات؛ لتعرفه قاعاتها الأدبية وصالات عروضها المسرحية والسينمية، وليسجل حضوراً بيّنا في مقرات الفرق المسرحية وبين ممثليها ومخرجيها وفنييها كبارا وصغارا، روادا وناشئين، فرقة (مسرح اليوم) و(المسرح الشعبي) و(مسرح بغداد).

تحرك الفتى بعنفوان مشاعر الفتوة ولكن بتعقل وأناة قد تنعدم لدى الكهول؛ فكيف تخطئه العيون ؟!

يدير نحوه البغداديون والبغداديات أعناقهم؛ لكنه تشرّب مفردات قاموسه الجنوبي العفيف، فارتقى عن المغانم واجتازها، ولم تعق سيره الحثيث إلى نبل غاياته من أبجدية قاموسه: كل الزميلات أخوات؛ كل الصديقات أخوات؛ كل الرفيقات أخوات. مترجما أمثولة راسخة في وجدان العراقي الأصيل (أخوي: جاراته خواته) فكيف تخطئه العيون ؟!

 كيف تخطئ العيون فتى صاعدا بكل القيم التي شحبت أمام انفتاح عقد سبيعيني عارم؛ لكنها صمدت في ثنايا روحه وتلافيف وعيه المتوقد بها؛فكانت له كينونة فاعلة تجسدت بالخلق الرفيع سلوكاً، وولوج دائرة الإبداع وعياً. فقدّم نماذجه القصصية الأولى لتحتل حيزاً من مجلات وصحف تلك المرحلة ثم استهواه النقد المسرحي فدأب ينشر نقوده في نشرة (مسرحنا) فحظيت بالاهتمام والتقدير من لدن أساتذة المسرح وجمهوره السبعيني المميز.

ولم تخطئه عيون الحزب ، فضمه إلى بيته الكبير، وتشرفتُ بأن أوكلتْ إليّ مهمة استقباله والعناية به. لنبدأ علاقة فريدة شاخصة في الوسط الثقافي والاجتماعي علاقة صداقية عميقة تخطت الأطر التنظيمية المعهودة؛فتلازمنا من الصباح حتى بواكير الصباح التالي وكانت (ساحة الأندلس)الملتقى والمفترق؛مكان بين وقتين ضفرت بينهما أواصر صداقة تاريخية قلَّ وجود نظائرها في الزمن التالي لزمنها.

تلتقي عندها خطانا القادمة من الباب الشرقي مروراً بشارع السعدون حيث محطات توقفنا الحتمية بمقرات الفرق المسرحية أو صالات العروض السينمائية فجريدة طريق الشعب فمسرح بغداد القابع في فرع نسلكه إلى شارع النضال، فالساحة التي شمخت في عنوان كتاب لفتى السبعينيات لاحقا أهداه إلى (مرتاديها ومثقفيها ) مؤكدا التصاقه بها والتصاقها بذاكرته التي هي ذاكرة جيل تحمّل كل ما أدخرته الأقدار من أهوال مفاجئة ومريعة حين بدأ الدكتاتور حملاته الشيطانية: البوليسية الفاشية والحربية الصبيانية والإيمانية الزائفة لينقض بالكامل على معطيات العقد السبعيني الحضارية والاقتصادية والاجتماعية. لتحل الكوارث التي فتكت بأبناء تلك المرحلة الزاهية في التاريخ العراقي؛ فتفرق الأحباب كل في طريق؛ فمنهم من ابتلعتهم المعتقلات أو تواروا في المخابئ عن أعين الجلادين، ومنهم من غيبتهم المهاجر أو المقابر بعد أن طحنتهم الحرب الهوجائية الضروس أو قذفت بهم عند السواتر خارج المدن والقصبات مدفونين في الخنادق النتنة تمحقهم حمم آلات الحرب الفتاكة فذوى شباب تلك المرحلة فكانوا كعصف مأكول.

وكان عدنان منشد، فتى السبعينيات، واحدا منهم أو مثالاً كبيراً على المآسي التي حلت بهم؛ دليلا بارزاً على انطفاء ذواتهم وانسحاقها بالقبضة الهمجية للدكتاتور ومطاياه الوحوش.

ولم تستطع رياح التغيير التي هبت عاتية عاصفة بعد 2003 أن تذكي الجذى التي خبت تحت رماد عقود العسف والخسة والقباحة الدكتاتورية الرعناء.

وكان فتى السبعينيات أبان هذا الزلزال الهادر صوة الآتين من المهاجر ودليلهم إلى المواقع والذوات؛ حلوا أغرابا في عاصمتهم التي ما كانوا قادرين على التعرف عليها بعد أن تغيرت هصرا وتشويها بآليات الديكتاتورية البغيضة، فدلّهم من أين يبدأون وكيف يسيرون في طرق ما عادوا يعرفونها بعد غيبة دامت عقوداً.

أشار إليهم أين يتموضعون، وجمع لهم الأنصار والأعوان، ومكّنهم من التمترس والانطلاق فالصيرورة.

وفي نهاية المطاف لم يحظ منهم بأبسط حقوقه التي تضمن له العيش وتدرأ عنه غائلة الاحتياج في حين أغدقت الأعطيات والرواتب التقاعدية على من لايستحقونها من الادعياء والمفبركين.

عدنان منشد الذي خدم الثقافة والصحافة منذ مطلع السبعينيات وعمل في أبرز الصحف: طريق الشعب في عهديها السبعيني والالفيني، المدى، الاتحاد لكنه خرج منها صفر اليدين ليعيش آخر عمره فقيراً ولكن عفيفاً بذات العفة التي ترسخت في جيناته عبر قاموسه الجنوبي العفيف.

وككل الناجين من الهلوكوست الصدامي ناء الفتى السبعيني بحمل وشم الخيبة والخسران والإحباط وانزوى في (زاوية) من مكانه الأثير اللصيق بساحته الأثيرة ساحة الأندلس مع صحب استطاب منادمتهم ولاذ برفقتهم من هول معاناته لكنه كان يطل من هذه الزاوية بين الفينة والفينة جاهراً بموهبته، مؤكداً عمق تجربته رغم جسامة العطوب وعمق الجروح التي أحدثتها فيها آلة العسف الديكتاتورية.

وكأن المقادير التي جمعتنا لتنطلق صداقتنا من مدينة واحدة هي عاصمة بلدنا الحبيبة شاءت أن تجعل نهاية هذه الصداقة في مدينة واحدة أيضا لكنها مدينة أجنبية؛ هي مدينة سامسون التي لحق بي إليها رفيق روحي، ليودعني فيها يوم الجمعة التاسع والعشرين من تموز.

فنمْ رفيق الدرب مطمئن النفس، فستظل تنعم بذكر الأباة.

عرض مقالات: