اخر الاخبار

لقد أعطى تعدد الهويات وتنوعها لعدنان منشد وجها ثقافيا جامعا انعكست فيه خصاله التي عُرف بها، وأولها عمقه الثقافي ومسيرته الحاشدة والجادة. التي أثرت ثقافتنا على مدى خمسة عقود وأكثر. يشهد على ذاك مجايلو عدنان منشد الذين عهدوه مبدعا جامعا أحب الفنون الجميلة كلها حبا منقطع النظير، غير مبتغ منافع أو هبات.

وعلى الرغم من الظروف العصيبة التي مر بها هذا المبدع، فانه ظل مواصلا مسيرته ولم ينقطع عن الإبداع بدءا من مطلع سبعينيات القرن الماضي حين نشر قصته(انتظار) في مجلة الكلمة مرورا بما كتبه للمسرح من نصوص ودراسات وما أخرجه من مسرحيات وانتهاء بآخر مقالة كتبها عام 2019 بعنوان(منتدى المسرح إرادة الحياة من الاورفلي إلى السنك) ونشرت في جريدة طريق الشعب وفي ختامها وضع رجاءً حبيبا إلى نفسه، وجهه إلى المؤسسة الثقافية أن تهتم بـ(منتدى المسرح) كي يستمر في مشواره الذي دام عقدين من الزمن وخلالها قدم عروضا مشهودا لها بالفاعلية حتى لم يبق ناقد مسرحي إلا شارك في فعاليات هذا المنتدى.

ولم يجد رجاء عدنان منشد للأسف أذنا صاغية، ولات ان يسمع من به صمم كي يكلف نفسه النعي أو التأبين وكيف ينعى أو يؤبن وهو يجهل عطاء عدنان منشد ؟

والحقيقة أن عدنان منشد لم يكن مثل أي أديب أو مثقف كتب الذي كتبه ثم رحل، بل هو ولد ليكون مثقفا ولذلك ظل على طول مسيرته يجاهد ويضحي كي يبقى النزوع نحو الإبداع في داخله حيا ناميا. وحين وجد ان لا مجال لمزيد من التضحية ولا قدرة على تلبية ذاك النزوع وقد تنكر لإبداعه من تنكر كتب مقالته الأخيرة تلك وأودع فيها رجاءه الأخير والأثير، وعزم على مغادرة العالم -الذي أحبه-- مأسوفا عليه أولا في مغتربه وأخرا في رحيله المفاجئ تاركا وراءه كل تلك التضحيات والعطاءات كي تقابل بمزيد من اللااكتراث والجحود وعدم الوفاء.

وهذا هو التصحر الذي خشيه عدنان منشد وحذر منه وسيستمر التصحر ما استمر الجحود والتنكر لمن هم مبدعون اصلاء وحقيقيون.

ولقد كان عدنان منشد مبدعا في مجموعة مبدعين، محتشدا بكثير من الطاقات التي قدمها للثقافة العراقية بلا منة أو رياء، بل قدمها بامتنان كبير وبالمجان وعلى طبق من متاعب جمة وبساط من تضحيات هائلة، جاد بها الواحدة تلو الأخرى في ظل واقع مزر يزداد زراية حتى ما عاد يعرف معنى أن يضحي المبدع في سبيل الثقافة. لقد قدم عدنان منشد قرابينه على دكة الثقافة العراقية، بالتزامه تجاه قضايا مجتمعه وبحريته في إبداعه. ولا تعارض بين الحرية والالتزام لمن عزم على تحمل المسؤولية الثقافية وكان مطلبه الإتيان بما هو جديد ومفيد.

ويعد كتاب (من أوراق ساحة الأندلس) 2019 آخر عطاءات عدنان منشد التي فيها اجتمعت الحرية الإبداعية بالالتزام المجتمعي فتجلت كخلاصة إبداعية اما الساحة فمكان إيداع تلك الأوراق التي أهداها(إلى مرتادي ساحة الأندلس ومثقفيها) بوصف ساحة الأندلس مفترق طرق العابرين صوب ميادين الإبداع وشواغله الثقافية. وميزة هذا الكتاب انه احتشادي  يكشف عن عدنان منشد المثقف الذي جمع بين المتعة والمعرفة والذي التقت في داخله ضروب الإبداع وميادينه كلها فمن التحليل النقدي والتنظير السردي إلى نقد المسرح والإخراج المسرحي ومن التوثيق الإعلامي والسرد السيري إلى الحفر التاريخي. 

وأول أدب شغف به عدنان منشد كان أدب الاعتراف الذي له في الأدب الغربي رواج بينما هو في الأدب العربي شحيح، والسبب (الوعي الاجتماعي الذي لم يوفر مناخا لإنتاج متميز في أدب الاعترافات كما ان في أدبنا العربي تابوهات تبجل عدم هتك الخطايا القديمة وتحذر من التهور في تقليب صفحات الماضي السود وتمنع فضح الأخلاق وتعرية المحرم والمسكوت عنه) لكنه مع ذلك ظل يرى في الاعترافات العربية طاقة ليست ناضبة.

وتحرى الفوارق بين أدب الاعتراف من جهة وأدب السيرة والمذكرات واليوميات من جهة أخرى وحددها، لا بالعودة إلى تنظيرات الغربيين وإنما بالاكتفاء بما له من مرجعيات قرائية فهي كافية لان يضع تنظيرات خاصة به هو، ومن تلك الفوارق أن المذكرات هي قصة حياة شخص كما يرويها بنفسه بوصفه هو (بلاك رايتر) الكاتب المتخفي وأن الصحافة العالمية هي التي ابتدعت هذا الأدب. اما أدب الاعتراف فيتطلب(إقرارا بأمور على النفس كالذنب والسقوط وسرد الخبايا والأسرار بينما تعد السير الذاتية والشهادات واليوميات إقرارا بأمور الغير والعصر.. التباين حادث أيضا على مستوى أفق التلقي فالقارئ يبحث عن متعة المعرفة على مستوى القطبين معا شخصية الكاتب ومراحل تفوقه) وضرب أمثلة مما قرأه في اعترافات الفريد دي موسيه وهنري ادمز وجان جاك روسو والسيرة الشكسبيرية ومذكرات الروائية التشيلية اليزابيل الليندي (حصيلة الأيام ) ومذكرات غابرييل غارسيا ماركيز(عشت لأروي) ووجدها فوضوية ومثيرة في جانبها المحرم والمسكوت عنه من التاريخ الشخصي آخذا على الكاتب تقشفه في كشف جوانب مهنية من حياته مؤكدا(انه كان ماركسيا جدليا حد النخاع وإن توارى في أقاصيصه المثيرة ورواياته المعروفة تحت ما يسمى الواقعية السحرية) كما تناول أدب السيرة والمذكرات عند سلامة موسى ومحمود أمين العالم ولويس عوض وشكري عياد ونجيب محفوظ. ووقف طويلا عند عوالم نجيب محفوظ المسرحية آخذا على النقاد عدم تنبههم إلى هذه العوالم (لان من شواغل هؤلاء النقاد البحث عن عروض المنصة البصرية قبل انتباههم إلى نصوص الورقة الطباعية التي تحفل بها وسائل الإعلام المقروءة في الصحف والمجلات) ولام جائزة نوبل أنها لم تشر إلى أدب محفوظ المسرحي الذي كتب في أعقاب النكسة التي كانت المنطلق لكتابة سبع قصص توزعت بين ثلاث مجاميع قصصية هي: (تحت المظلة) و(الجريمة) و(الشيطان يعظ) (احداث النكسة الشهيرة) ونالت اعترافات المفكر والناقد محمود أمين العالم اهتماما خاصا من لدن عدنان منشد الذي قال (كان بالنسبة لجيلي ونحن نخطو خطواتنا الأولى في تثقيف أنفسنا في أوائل السبعينيات اسما لامعا ومثيرا للاهتمام لاختلافه وائتلافه والتزامه وتزمته وشدة حساسيته لمشاكل الناس من دون ان يتملقهم)

ومن لطائف إشارات عدنان منشد الذكية ملاحظته ان كتابنا مولعون بكتابة الشهادات لا الاعترافات لأنهم في الشهادات يكونون قادرين على التعميم بشمولية فيصبح صاحب الشهادة هو نفسه شخصية شمولية. ومن الشهادات التي قرأها منشد (جدار بين ظلمتين) لرفعة الجادرجي وبلقيس شرارة وعدها من أدب السجون السياسي وشكلا من أشكال المقاومة وتسجيل القمع والاحتجاج.

وعلى مستوى القصة والرواية اهتم عدنان منشد بالأعمال التي تنتمي إلى ما سماه(أدب الغرابة) واظهر باعا نقديا ومعرفيا كبيرا في نقده له (كمصطلح متعدد الأبعاد مركب المعاني متنوع الدلالات.. من معانيه حضور الموت في الحياة وحضور الحياة في الموت وظهور المألوف في سياق غير المألوف..وهو من سرديات الخوف والظلام وسرديات تفكك الذات)  ولم ير فرقا بين الغرابة والتغريب والاغتراب لأنه كلها ـ برأيه ـ تتجلى عن العجائبية.

وعد ادجار الن بو سيد أسياد الغرابة في السرد القصصي مثل دستويفسكي وكافكا ووجد في لا مالوفية الن بو تفردا وأنه كان مسحورا بالأدب الفارسي والعربي ولم يبلغ سن الأربعين. وتأسف ان هذا الكاتب المهم لم ينل حظه من الترجمة فلم يعرب من أدبه سوى بضع قصص منشورة في مجموعة (مغامرات وأسرار) ومنها قصة القط الأسود وقصة القلب الذي كشف السر وقصة الرقاص والبئر التي وجد في افتتاحيتها ما يشبه افتتاحية كليلة ودمنة لافتا الانتباه إلى أن من كتاب أدب الغرابة أيضا فالتر بينامين وارنست نيتش وريشارد هاورد وفرويد وتودوروف.

ولان في أعمال جورج اوريل الروائية دعاية سياسية للغرب، رفض عدنان منشد ما شاع عن هذا الكاتب أنه ضمير القرن العشرين ونفر من روايتيه مزرعة الحيوان و1984 ولكنه أول من تنبه إلى ان لاوريل روايتين أخريين لم تترجما إلى العربية هما(أيام في بورما) و(محاولة لاستنشاق الهواء)

ومن المفاهيم التي اجترحها عدنان منشد (السرد الطيفي) أو الشبحي وأكد ان له (علاقة بالأدب القوطي الطللي أو الاثاري الممزوج بالرعب والغموض عند تشارلز مايتورن وماري شيلي وبرام ستوكر وستيفنسون وردكليف وادجار ولوفكرافت) وإذا كانت رواية (عزازيل) ليوسف زيدان من أدب الغرابة، فان روايته(النبطي) من السرد الطيفي وقد راع عدنان منشد ما وجده فيها من سرد مبهر ومكثف. 

ومن الاجتراحات التي جاء بها عدنان منشد مفهوم (أفق اللغة الثالثة) وإذا كان السرد هو الافق الأول والحوار هو الافق الثاني فان اللغة الثالثة هي ما وجد في رباعية شمران الياسري كأهم الروايات العراقية التي يتوفر فيها هذا الأفق ويعني(معرفة شفرات السادة والشيوخ والحرامية التي درسها شمران عن كثب وهو داخل السجن) وهذه اللغة يستعملها (الموامنة الذين يجوبون الريف يتخاطبون بها ولها أسرار تتلخص في رفع الحرف الأول وجعله في آخر اللفظ مضافا إليه يدي ويحل حرف س محل الحرف الأول).

ووجد عدنان منشد في الرواية العراقية الراهنة وهنا وضعفا(خصوصا بعد هطول الروايات الكثيرة من أدبائنا العراقيين في الداخل والخارج كثيرا ما اشعر بالإحباط مما اقرأ من رواياتنا العراقية الجديدة) وأشاد برواية عبد الكريم العبيدي(كم اكره القرن العشرين).

وكتب عدنان منشد عن شعراء وأدباء وكتّاب ومسرحيين عراقيين مثل حميد المطبعي وسعد محمد رحيم وخليل الاسدي ومير بصري وجعفر السعدي وخليل شوقي وسامي عبد الحميد وجميل نصيف ومصطفى عبود وصلاح القصب وعقيل مهدي.

وأثنى على عزيز عبد الصاحب في عمله (لا ترسم عصفورا ناقصا) لأنه يحمل ذاكرة المسرح العراقي أو حولياته وأشار إلى ان له دورا في حضّ المؤلف على كتابة هذا العمل يقول: (ساهمت والى حد ما في تحريضه لكتابة مذكراته المسرحية في جريدة الاتحاد) وجنّس هذا العمل تجنيسا غريبا فسماه أدب المنصة المسرحي أو مدونات التمرين المسرحي البروفة ووجده مستعملا عند ستاسنسلافيسكي وميرهولد وبيتر بروك ويوجين باربا. والجميل انه اتبع دراسة الأب عبد الصاحب بدراسة الابن سعد عزيز عبد الصاحب كاتبا وممثلا ومخرجا.

ولم تكن الظواهر الثقافية والفنية تفوت عدنان منشد فكان يكتب وينبه وربما يتنبأ كما في ورقته (حلم اسطنبوليود من قيم العصملي إلى قيم الحرية المعاصرة) وورقته عن (الدراما التلفزيونية في العراق من النجاح إلى المأزق)

إن كتاب (من أوراق ساحة الأندلس) صورة صادقة لعدنان منشد المثقف الجامع والمبدع الاحتشادي الذي ودَّعنا من دون شجن، ورقدت روحه في ارض غير ارض الوطن.

وإذا كانت مناشدة عدنان منشد وزارة الثقافة قد ذهبت ادراج الرياح، فان الأوان ما زال أمامها لكي ترد الفضل لهذا المبدع وتعطيه حقه من الاعتبار والاستذكار محتسبة تاريخه الثقافي الطويل وما ناله خلاله من تجاهل وإحباط وعطالة وإهمال، لا بأن تسمي باسمه قاعة أو تقيم احتفالا وإنما تهتم وتدعم (منتدى المسرح) الذي هو أمنية عدنان منشد العزيزة، وبه سيذكره أصحابه ومحبوه وقراؤه فلا يذرفون الدموع لغيابه، بل يفخرون بعطائه ويشيدون بنبل روحه فتطيب ذكراه.

عرض مقالات: