اخر الاخبار

الصورة التي في ذاكرتي وقلبي عن شمران الياسري، لا تنقطع عند تفاصيل الوجه ولون البشرة أو الشَعر، بل هي ممتدة إلى حيث لم يرها غيري أو يرصدها أو يدقّق فيها.

الصورة عندي في صوته، في انحناء ظهره وهو ينكبُّ على الورقة، في مقتنياته من الثياب وأربطة العنق، والزي العربي. صورته في الحروف التي اختطتها أنامله قبل ستة عقود أو أكثر، في مسوّدات رواياته ومقالاته.

صورته التي ظلت في ذاكرتي وقلبي حينما كان يعود في أنصاف الليالي مع عدد من الرجال الشجعان بعد رحلات طويلة من الاختفاء في الأرياف لتنظيم الناس لحزبه، ونشر فكرتهم عن الحرية والسعادة والرفاهية، وحقوق الناس، وموقع المرأة في حياتنا.

صورته في ابتسامته الذكية والحزينة أحيانًا وهو يرى بعض قصور الأحلام، التي شيّدها مع رفاقه، تنهار تحت وطأة الأنظمة التي توالت على حكم بلاده.

تواضعه الذي رأيت القليل منه عند بعض الناس، وعدم اكتراثه لتفاصيل الحياة التي تشغل الكثيرين، فتقدِّم همومهم على هموم الناس الذين وثقوا بهم.

كانت صورة شمران الياسري في القصص الكثيرة المتزاحمة داخل رواياته التي امتدّت نحو خمسة عقود من زمن العراق وحياة أهله.

في كل قصةٍ من القصص التي بعضها بسطرين وبعضها بعشرات الصفحات، كان أبطال الرواية هم بعض صور شمران، فكان يشمت بالذين جعلوا من أنفسهم عتاةً وعبيدًا للسلطة أو المال، ويهزأ بجبروتهم وقسوتهم، ويدين أرواحهم البائسة، في حين رأى أن يرفع آخرين لمنازل البطولة والشهامة والنجابة، فكنت ترى هامته عالية في هتافاتهم وهي تدين الإقطاع والرجعيين والاستعمار والسلطة.

كانت صورته في مناجل الفلاحين ومواسم فرحهم، ونجاحات الناجحين منهم، وفي اضطرابات السلطة من إبداعات العمال ونضالاتهم العفيفة، وفي انحناءات الناس لمواقف الشهادة وتمجيد الشهداء.

صورته في وجوه ثوّار العشرين الذين حاولوا منع المحتل من تدنيس بلادهم، وفي وجوه السجناء وهم يحطمون أغلال السجون، وفي سواعد عُمّال النفط وهم يرفعون أعلام المواجهة مع الشركات الاحتكارية.

صورته في حجم التنوير الذي نثره في كل ما كتب، وتحدّث، وضحك، وبكى.

صورته التي في ذاكرتي وقلبي تتّسع لمديات أبعد من ذلك الوجه الجميل المفعم برجولة العراقيين الفاتنة، فتتحوّل الى إطار من الحكايات، وامتدادات السنابل، ومخاضات النضال التي نتحدّث عنها اليوم بحسرة المتحسّرين على البوصلات التي ضاعت، والبيادر التي ذرتها الرياح وتبقّى بعضها اليسير، نتأمل فيه وننتخب منه ما لا يثقب الضمير أو الروح.

شمران الياسري كان نجمًا، وكانت هالته الواسعة أكبر من صورته البشرية الجميلة والأنيسة والدافئة، نجمًا تفرّد بأشياءَ لم تكن متيسرة لغيره على الرغم من محاولات بعض منهم تقليد تجربته.

كان المقال اليومي ينبت حالاً في بيئة عطشى لهذا النوع من الكتابات الأمينة والأنيقة والمتدفقة ولاءً للناس وحبًّا لهم.. بيئة تترقّب الكلمة الشجاعة التي لا تستطيع أن تقولها مثلما يقولها شمران.

وكان حديثه اليومي في الإذاعة نسمات ربيعية يبحث في كل ما يشغل الناس، ويميط عن نفوسهم ذلك الأسى المرتبط بمشاغلهم وآمالهم.

صوت كانت تنتظره الناس عند الخامسة عصرًا، يتحدّث بضع دقائق عن قضية محددة فتتناقلها الألسن بعد دقائق، وتبقى تلهج بها لأيام، وبعضها مضى عليه عقود، بل منه ما ذهب مثلاً على الألسن.

وحين نأتي إلى روايته بأجزائها الخمس، بوصفها منجزًا فريدًا في الأدب العراقي، نجد أنّها ضمّت في متنها، فضلاً عن المضمون الأدبي السردي التوثيقي، قاموسًا وطنيًّا للغة الريف العراقي لم تصل إبداعات أيّ مبدع لمستواها البحثي والتحقيقي.

إنّ الأدب العراقي كان وما يزال أمام ظاهرة أدبية غير مقيّدة بفكرة واحدة أو بإطار محدّد، بل هي من السعة بحيث تستحق الفخر بها بوصفها وثيقة روائية تأريخية، دلّت على نضج شعبنا العراقي في مرحلة بناء الدولة العراقية الحديثة بعد عام 1920، وحيويته، وعنفوان مبدعيه في كل مناحي الحياة من جهة، ودلّت، من جهة أُخرى، على قدرة الكاتب على التقاط هذا الكم من المعلومات والحكايات والحبكات الدرامية في منجز واحد.

شمران الياسري (أبو گاطع) صحفي أحبَّ مهنته بعد أن تعلّم الكتابة من مبتدأها على يد السيدة والدته بطريقة الكتاتيب، فصار نجمًا صحفيًّا كبيرًا. وهو إذاعي من الطراز الأول، يكتب مادّته ويلقيها ليتوحّد معه الجمهور، فيصبح الجمهور هو كاتب الحكاية وبطل الإصغاء إليها.

و(أبو گاطع) أديب وروائي وسياسي خاض غمار التجربة السياسية قبل أن (ينبت له شارب) (كما يقولون)، فصار اسمًا علمًا، وشخصية باهرة.

صورتك أبي ليست مثل كل الصور، فهي ليست قابلة للتكرار أو النسيان، وإبداعك الصوري والعقلي واللساني لا يشبهه إبداع المبدعين.

رحمك الله أبي في يومك الذي مَرَّت عليه إحدى وأربعون سنةً من جفاف الضمائر ومعاناة الوطن، ومحاولات الوطنيين البقاء متمسكين بأهداب الضمير، جاعلين أرواحهم جسرًا إلى نجاته.