اخر الاخبار

يزدحم فقه القانون الدستوري المعاصر بمنظومة من الآراء والأفكار القانونية الحداثية والجدلية والتي تعمل على تسويق نمط جديد للسيادة يسمى (بالسيادة النسبية) بديلا عن إملاءات النظرية الكلاسيكية (للسيادة المطلقة) والتي تكرست سريعا مع تنامي حركات التحرر والاستقلال الوطني من الاستعمار.. وهذا المفهوم الحداثي بدأ بالظهور تزامنا مع علوية وسمو قيم الدفاع عن الحريات وحقوق الانسان بالعالم.

إن السيادة كركن أساسي من أركان الدولة كون الدولة شخصية اعتبارية وقانونية معترف في صيرورتها ووجودها بالمجتمع الدولي.. إن فكرة او مبدأ (السيادة المطلقة) برزت تحديدا في القرن السادس عشر والسابع عشر وحتى بدايات القرن الثامن عشر. وأصبحت هذه النظرية اعني بها (السيادة المطلقة) تشكل ضرورة فلسفية متسلطة ومتصيدة على أغلب نظريات القانون العام الداخلي والخارجي. لا بل كانت أحيانا ذريعة وأداة للأنظمة الشمولية للتمادي في احتكارها للسلطة السياسية وتقويض الحريات العامة ومصادرة الحقوق المدنية والديمقراطية.. وهكذا نجد ان صناعة مفهوم السيادة المطلقة كان يختفي وراءه أحيانا الإمعان وبلا هوادة في الانتهاك الجسيم لحقوق الانسان. وهكذا نجد الكثير من الدول وحتى الفترة الراهنة سارعت لتوثيق مبدأ السيادة المطلقة في وثائقها الدستورية وكانت (نظرية إعمال السيادة) في القانون العام هي واحدة من هذه العناوين المعيارية. حيث اصبحت الحكومة كونها سلطة سياسية أمرة تتمتع بنوع من الحصانة والحماية الدستورية أمام تدخل ورقابة القضاء المختص. فلم تعد في الكثير من الحالات وفي العديد من قراراتها وتصرفاتها لا تخضع لرقابة القضاء الدستوري او الاداري لا الغائب ولا تعويضا خاصة في علاقة السلطة التنفيذية (الحكومة) بالدول الأخرى مثل عقد المعاهدات والاتفاقيات الدولية او ترسيم الحدود او حتى اعلان الحرب...؟ لا بل ان الحكومة في ظل حالة الظروف الاستثنائية تمتلك ولاية واختصاصات قضائية فيمكن لها منع السفر والحجز على الممتلكات الخاصة والإبعاد والإقامة الجبرية دون الرجوع للقضاء...؟ كما يمكنها في حالة الظروف القاهرة ان تحوز على سلطات تشريعية واسعة وتصدر قوانين وتشريعات بمراسيم جمهورية...؟ وهذه الافعال والتصرفات تشكل انتهاكا لمبدأ المشروعية وقيدا على الحريات العامة وحقوق الانسان...؟

ومع التطور المتسارع في العلاقات الدولية اتخذت فكرة السيادة مفهوما جديدا حيث بدأ التخلي تدريجيا عن نظرية السيادة المطلقة لتحل محلها فلسفة دستوريه أكثر حداثة الا وهي (السيادة النسبية) في القانون الداخلي للدول وذلك في ظل تنامي وتعاظم (عالمية حقوق الانسان).. حيث التزمت العديد من الدول بتضمين قانونها الداخلي ووثائقها الدستورية منظومة من مواثيق حقوق الانسان وحرياته الأساسية التي وردت في الصكوك الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق العالمي لحقوق الانسان. وقامت الدول بتكييف تشريعاتها الداخلية مع تعاليم واشتراطات القانون الدولي المعاصر الذي اصبحت احكامه في مجال حقوق الانسان والعلاقات الدولية بمثابة (قواعد قانونية آمرة) ... هذا كله فتح الباب لصناعة فلسفة قانونية جديده تسمى افتراضا (بالسيادة النسبية) فأصبحت الدول تذعن للمنظور الأممي للحريات وحقوق الانسان ولا تستطيع شرعنة اي قانون داخلي يتعارض مع هذه الحقوق الإنسانية.. وهكذا أصبح القانون الدولي ذا طبيعة قانونية ملزمة وأمرة بالعلاقات الدولية بحيث لا يمكن ان نجد دولا تدعي مناهضة القانون الدولي او انها تمتلك السيادة المطلقة ولها سلطة اتخاذ القرار لوحدها في العلاقات الدولية دون رضى وموافقة الدول الأخرى والمجتمع الدولي. فنظرية السيادة المطلقة اصبحت بالتقادم الزمني لا تتفق ومتطلبات التطور الجديد للعلاقات الدولية ولأسس خضوع الدول لسلطة الامم المتحدة

هذا جانب.. وجانب آخر قيام العديد من الدول بالتوثيق الدستوري لحقوق الانسان وحقه في الحياة والعمل والتظاهر والعقيدة وحرية التعبير عن الرأي والتداول السلمي للسلطة ورفض كل اشكال التعذيب والتغييب القسري وحقه في المشاركة بالانتخابات وبإدارة الدولة وغيرها.. وهذا كله عجل في التخلي الممنهج عن مفهوم السيادة المطلقة تدريجيا وارساء نمط جديد من السيادة النسبية الذي ترتبط بالقانون الدولي وببديهيات حقوق الانسان. وأخيرا يمكننا القول إن تقييد مبدأ السيادة المطلقة لا يعني بأي حال من الاحوال هو تفكيك قانوني لمفهوم السيادة الوطنية بقدر ما يعني هو وضع القيود على كيفية ممارسة هذه الدول لحقوقها السيادية بما لا يتعارض مع القانون الدولي ومنظومة حقوق الانسان وحرياته الأساسية وان لا يشكل ممارسة الدولة لحقوقها السيادية مساسا أيضا بسيادة الدول الاخرى......

ــــــــــــــــــــــــــــ

* حقوقي واستاذ جامعي

عرض مقالات: