اخر الاخبار

فيفيك شيبر ناقد ثقافي واكاديمي امريكي وفيلسوف السوسيولوجيا في جامعة نيويورك، له ثلاثة كتب (بناء الدولة والتصنيع المتأخر في الهند) 2003، (نظرية ما بعد الاستعمار وشبح رأس المال) 2013، وكتابه الأخير (مصفوفة الطبقة: النظرية الثقافية بعد الانعطافة الثقافية) 2022 وهو الكتاب الذي أجرت حوله قناة (Jacobin) مقابلة. والسؤال المركزي الذي يدور حوله الكتاب: كيف يمكن لنظام مليء بالصراعات والتناقضات ان يستمر لقرون ويحكم العالم الآن، اذا كان العالم اليوم مليء بالاستغلال واللاعدالة فلماذا لا تنفجر التمردات في كل مكان وكل وقت؟ اليسار (خصوصا الماركسيات الغربية) وفر جوابا هو ان الثقافة والايديولوجيا ساعدت على ابقاء النظام في مكانه. يتحدى فيفك هذا الادعاء ويذهب باتجاه عكس ماتذهب اليه النظريات الاجتماعية لذلك يستعرض حججه حول الدور الذي تلعبه والذي لاتلعبه الايديولوجيا السائدة.

القضية الرئيسية التي يدور حولها الكتاب هي كيف للنظام الرأسمالي وهو نظام جذوره تعتمد على الهيمنة والاستغلال ان يبقى قائما لقرون؟ الماركسية واجهت هذا السؤال مرارا وتكرارا.

المقاربة المادية هي قلب النظرية الماركسية والمادية لها العديد من الأبعاد لكن نواتها هي ان الناس حين يمارسون السياسة او في سعيهم لاهدافهم الاقتصادية فأنهم يعملون وفق مصالحهم. إذن في قلب المادية الاجتماعية هنالك عقيدة بأن النشاط الاجتماعي للناس محكوم بمصالحهم المادية.

إذن في تاريخ الماركسية حين يطرح السؤال حول كيف يمكن للنظام الرأسمالي ان يبقى وكيف للممثلي الطبقات ان يتفاعلوا مع بعضهم ويشتركوا في هذا النظام. فيفترض ان يكون الجواب ماديا: أن لهذا أسباب ترتبط بمصالحهم.

لكن في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية طغت المقاربات (الثقافية والايديولوجية)، اي أن اليسار بدأ يولي الأهمية لدور الثقافة والايديولوجيا.

ما قبل الحرب العالمية الثانية (بدايات اليسار الجديد) بدأت تتولد قناعات لمفكرين مثل ستيوارت هول وريموند وليامز والمفكرين القريبين من مجلة (NEW LEFT REIVEW) أن الماركسية لم تهتم بالايديلوجيا بشكل كاف وان الكثير من الالغاز بالنسبة للنظرية الماركسية سيتم الاجابة عنها عند الاهتمام بموضوعة الايديولوجيا، لماذا اعتقدوا هذا؟

بسبب هذا السؤال الذي اسعى للإجابة عنه. لماذا يبقى النظام مستقرا؟ السؤال اٌثير مع بدايات القرن العشرين حيث بدأ ان النظام الرأسمالي ينتج حفاري قبره كما توقعت الماركسية وان هذا التوقع سيتحقق، لكن مع خمسينات القرن العشرين دخل الغرب الرأسمالي مرحلة استقرار سياسي واجتماعي. فكيف لنظام كان من المفترض ان تطيح به الطبقات المستغلة ان يبقى مستقرا مع مرور الوقت؟ هذا هو السؤال الذي طرحه اليسار الاوربي الجديد على نفسه. والقلق الذي كان يتملكهم هو أننا نعلم ان بنية النظام تنتج الصراعات والاستغلال لكن رد الفعل الاجتماعي  للطبقات المستغَلة لم يكن بالشكل المتوقع ( عمال ينظمون انفسهم ويدافعون عن مصالحهم )اي أن العواقب الاجتماعية السياسية لمجتمع طبقي مبني على الاستغلال كانت مخطئة، وبدأ التفكير في امكانية وجود عامل وسيط بين البنية الطبقية من جهة والوعي والفعل السياسي من جهة أخرى، هذا العامل يشوش او يعيق تحقق النتائج المتوقعة لهذه البنية الطبقية المبنية على الاستغلال (اي الاطاحة بالنظام)، وجوابهم كان الأيديولوجيا والثقافة.

فقد اهتمت مدرسة فرانكفورت والمجموعات الغرامشية في السبعينات من القرن العشرين بفكرة ان الهيمنة الثقافية وصناعة الإعلام تؤثر على وعي الطبقة العاملة، و بتتبعنا للتأريخ الفكري لليسار الجديد سنجد ان اهتمامهم الاساسي والرئيسي هو الثقافة والبناء الفوقي، لأنه بالنسبة لهم الفجوة والفراغ في النظرية الماركسية. لذلك فأنا اجادل في كتابي بأن هذه الفكرة هي خطأ جوهري للاسباب التالية: لقد احتفظ اليسار الجديد بالتحليل الماركسي حول تعرض العمال للاستغلال من رؤسائهم وانخفاض أجورهم وظروف العمل الصعبة وانهم يخسرون السيطرة على حياتهم خارج العمل. لكنهم تساءلوا لماذا لا يتحول كل هذا إلى وعي سياسي؟ جوابهم كان بأن العمال يتم استيعابهم اجتماعيا بواسطة الايديولوجيا لتقبل مكانتهم في النظام. لكن التحدي الذي تواجهه وجهة النظر هذه هي كيف لهؤلاء الناس الذين يتعرضون لهذه الظروف ان يتقبلوا ما يتعرضون له من استغلال ويتقبلوا مواقعهم في البنية الاجتماعية بتأثير قوة الايديولوجيا.  خلف هذا المنطق رؤية بأن العمال مغفلين او انهم غير عقلانيين، برأيي أن هذه مشكلة عميقة في داخل الاطار العام لليسار الجديد. فقد تقبلوا نظرية البنية الطبقية لكنهم رفضوا الاخذ بالاعتبار حقيقة ان يكون للعمال اسباب جيدة لرفضهم ان يتنظموا او يثوروا او ان يتجمعوا.

في هذا الكتاب احاول الادعاء بأن العمال عقلانيون وان لهم فهم جيد للظروف المحيطة بهم وانه من الممكن فهم سبب عدم التمرد، وجوابي هو ان الرأسمالية كنظام استقر بعد الحرب العالمية الثانية ليس لانه خدع الطبقات المستغَلة بواسطة الايديولوجيا، بل لأن البنية الطبقية اضافة لانتاجها الصراع بين العمال والرأسماليين لها ميزة اخرى وهي انها تقنن هذه الصراعات إلى اتجاهات مسيطر عليها من قبل رأس المال، ماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ كانوا محقين بقولهم إن البنية الطبقية للرأسمالية مبنية على الاستغلال وتولد الصراع بين العمال والرأسماليين فيما لم ينجحوا في رؤية ان الصراع  ورد فعل العمال على الاستغلال ليس له بالضرورة ان يأخذ شكل الفعل الجماعي (التضامني ). في الحقيقة ان ما تقوم به البنية الطبقية هو جعل العمل الجماعي والتنظيم وتشكيل الاتحادات صعبا جدا وان العمال سيواجهون التحديات والمخاطر في حالة قاموا بذلك. لذلك يجد العمال ان من المنطقي ان يقاوموا بشكل فردي بدل ان يواجهوا كل هذه المخاطر التي قد يتعرضون لها في حالة نظموا أنفسهم. لذلك فأن التنظيم ليس رد الفعل الطبيعي على الاستغلال والهيمنة فهو نتيجة استثنائية ويظهر في ظروف محددة، اما الاتجاه العام في النظام الرأسمالي هو ان العمال يقاومون بوسائل فردية وليس بوسائل جماعية. لكنهم حين يقاومون فرديا فهم يخسرون فرؤسائهم هم الطرف الاقوى. السر في الرأسمالية هي انها حين تنتج الصراع فأن لها القدرة على تحقيق استقرارها بتقنين هذه الصراعات إلى نهايات يمكن السيطرة عليها.

لذلك افترض خطأ ان الايديولوجيا سبب الاستقرار ومصدره فيما الحقيقة هو ان مصدر الاستقرار والاستمرار هو البنية الطبقية للرأسمالية ذاتها.

ولهذا لدينا هذه الحقيقة المذهلة وهي ان الرأسمالية اينما كانت في العديد من الثقافات والمناطق كانت لها القدرة على تحقيق الاستقرار من خلال رفع كلفة وعواقب تنظيم العمال لانفسهم والتمرد جماعيا فيميل العمال للتمرد فرديا.

فاذا لم تكن هذه هي القضية اي ان الايديولوجيا ليست مصدر الاستقرار وان مصدر الاستقرار هو القيود المادية والاقتصادية التي يواجهها العمال في حالة سعيهم للمقاومة جماعيا. فالسؤال هنا هو هل للأيديولوجيا دور؟ الجواب نعم لها وظيفتان:

الوظيفة الاولى للايديولوجيا هي انها تلعب دورا في عقلنة افعال العمال والرأسماليين (بالنسبة للرأسماليين فهي تبرر لهم استغلالهم للناس) لذلك فأن فكرة اليسار الجديد (الايديولوجيا تحفز العمال على عدم التمرد وعلى عدم التنظيم) غير صحيحة فالسبب الرئيسي هو الظروف الاقتصادية والاجتماعية والعوائق التي يحس بها العمال، اما ما تفعله الايديولوجيا هي انها تجعلهم يتعايشون مع الخيارات التي اتخذوها.

فهم يتخذون خياراتهم بناء على اعتبارات مادية واقتصادية لكن هذه الخيارات يجري عقلنتها بالنسبة لهم عبر الأيديولوجيا، وهي هنا تشبه الاسمنت (الغراء)الذي يملاء الفراغات في حين القيود المادية هي التي تقوم بالعمل الاساسي فيما يخص الاستقرار.

الوظيفة الثانية للايديولوجيا  وهي عكس ما تذهب اليه نظرية اليسار الجديد حين اعتبروا الايديولوجيا مهمة في تحقيق الاستقرار للنظام، بينما أرى ان للايديولوجيا دور في زعزعة استقرار النظام، وذلك حين يحاول العمال تنظيم انفسهم في محاولة لانشاء منظمات واتحادات جماعية تمكنهم الايدلوجيا من تقبل الخسائر والتضحيات وتحمل نتائج مايفعلون لانها تنتج ما يمكن تسميته ب (الهوية الجماعية)، والتي يمكن اعتبارها تضامنية لا يمكن ان تتحقق من دون عمل ايديولوجي حقيقي لذلك فليست وظيفة الايديولوجيا هي تحقيق الاستقرار للنظام بل تبقى الايديلوجيا سلاحا في يد الاحزاب الاشتراكية تساعد العمال في تكوين الهويات الاجتماعية الجماعية( الضرورية بالنسبة للحراك الاجتماعي ) و التغلب على العقبات وتقبل التضحيات التي سيبذلوها في الصراعات.

ما احاول فعله في هذا الكتاب هو استعادة المادية التي هي اساسية للنظرية الاجتماعية الماركسية والتي تقول بأن التشكيلات الاجتماعية تنشأ وتنهار بناء على اعتبارات مادية لطبقاتها وليس بناء على الايديلوجيا. كل تشكيلة اجتماعية لها بنيتها الطبقية وهذا مهم لانها تنتج مصالح الطبقات. لذلك استعدت الدور الاساسي (للمصالح المادية) لكني لا امحو دور الايديولوجيا، بل اعيد تعيينه، فهي فيما يخص استقرار الرأسمالية هي عامل ثانوي تعقلن خياراتنا، وفي تحريك الناس هي عامل مهم في زعزعة استقرار النظام لأنها تولد الهويات السياسية. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • المقابلة متوفرة على موقع Jacobin على يوتيوب
عرض مقالات: