قلتُ لمحدّثي وقد فُصلَ القولُ في الانتخاباتِ الرئاسية و التشريعيةِ:

“ألا ترى أنّ عدد النساء المترشحات ضعيف وعدد ُ الناجحاتِ أضعفُ رغم ما نصّ عليه القانون الانتخابي من ضرورةِ التناصُفِ في قوائم المترشحين الحزبية منها و المستقلّة؟

قال محدّثي:

ميدانُ السياسة ذكوريّ بحتٌ٠ يمكنك أن تجدَ للمرأة حضورا فاعلا في العمل الجمعياتي المدني أو في كواليس السياسة و لكنها غيرُ مهيّأةٍ للممارسة السياسيةِ العلنية و للانخراط في الأحزاب، وأن هي أرادت ذلك فلن تنجحَ٠

قلتُ:وهل تعزو الأمرَ إلى نقصٍ فيها أرادته الطبيعةُ الأنثويةُ أم إلى التربية الاجتماعية المحافظة ؟

قال محدثي:بل هي الطبيعةُ ،فالسياسةُ-بحكم أنها عمليةُ صنع القرارات واتخاذ الاجراءات و الطرق والأساليب الخاصة بتنظيم المجتمعات- هي مجال جافٌّ ،بعيد عن الهوى و يقتضي من طالبه شخصيةً قويةً صلبةً و ذات جأش و عزم تتحمّل الصراعاتِ والمناكفاتِ و النقاشات الملتوية و القدرة على الإقناع بالحجة العقلية وبالدليل الواقعي و اطلاعا واسعا على الأحداث الماضية و الحاضرة و على الواقع المحلي و الدولي…و المرأةُ عاطفية هشةٌ رقيقة لا تتحمّل طول الجدال ،ميّالة بطبعها إلى ما هو وجدانيّ  …المرأة خلقتْ للحبّ والغزل و ليس للسياسة والحكم ،ثم إنّ المرأةَ لا تستطيعُ اتخاذَ قرارات تخص أسرتها فتوكل الأمر إلى الذكر في الأسرة فكيف ستسيّر شعبا؟

قلتُ:أظنّك تنطلق من أفكار جاهزة عن المرأة عششت في الرؤوس منذ أقدم العصور  رغم دحض التاريخ لها فقد برهنت المرأة- إذا مُنحت الفرصةَ- أنها أقدر من الرجل على التسيير وصنع القرار، ولكنّ التمييز الجنسوي يهيّئ للرجل أنه الأقدر في مجال السيادة  بل ويجعلون الربّ مسؤولا منذ بداية الخليقة عن توزيع الأدوار فاختار للرجل مجال الفروسية و السيادة اي ممارسة السلطة، واختار للمرأة شؤون البيت والحقل، أليس النظر إلى المرأة من زاوية واحدة هي الأنوثة مجرد تعلة لسلب المرأة حقها في دخول مجال السياسة من الباب الكبير؟

قال محدثي: فما تفسيرك لعزوف المرأة عن السياسة رغم تغير القوانين في صالحها؟

قلت: فأنت تراها “عازفة” عن العمل السياسي إذن، و بالتالي أصبحت المسألة إراديةً و ليست طبيعيةً وتتدخّل فيها التربية الاجتماعية للذكر والأنثى و يصبح للنظام السياسي في بلداننا تأثير على منهج التربية والتكوين في أسَرِنا.

أنظمتنا هي أنظمة الحزب الواحد و الإيديولوجية الواحدة، كلّ شيء عندنا مُنمّط: نظام العيش و التعليم و تنظيم المدن وحتى تنظيم المكاتب في قاعات التدريس …أفكارنا منمّطة؛ و إنّك لترى ما يلقاه المعارضُ الفكري من ألوان الهرسلة و التعذيب رجلا كان أو امرأةً٠كلّ من تُشتَمّ عليه رائحة المعارضة إمّا أن يقع اغتياله بطرق قذرة أو تنسب إليه جريمة حقّ عام حتّى لا ينال شرفا، وعموما لا يقع الاكتفاء بحبسه و تعذيبه، بل تطاردُ أسرتُه و تُهان.

وبالنسبة إلى المرأة فإنّ كل نشاط سياسي تمارسه خاصة إذا كان معارضا يحوّله النظام إلى “نشاط دعارة” تنكيلا بالمرأة و سمعتها، وما دامت المرأة عندنا تمثل الشرف فإنها تُمنع من كل نشاط سياسي في هذه البيئة الموبوءة، وإذا كان المجتمع يفتخر بسجين الرأي ويعتبر “السجن للرجال”فإنّه ينبذ سجينة الرأي لأنه قد سُجِّل في دفاترها المدنية أنها “بغيّ”٠

سقتُ إليك هذه المقدمة لنتبين سبب التوجه في تربية الأنثى نحو إبعادها عن عالم الذكور و اجتماعاتهم و المنحى بميولاتها واهتماماتها نحو النشاط الاجتماعي لأنه أسلم.

قال محدثي: فالاهتمام بالسياسة إذن ليس موهبة بل تدريبا يشترك فيه الذكر والأنثى على قدم المساواة.

قلت: أجل ،فعندما ينشأ الطفل ذكرا كان أو أنثى في ظلّ نظام سياسي يمنح الحريات و يحترمها و في أسرة تربيه على الشجاعة الفكرية و حرية الرأي و التعبير و القدرة على تحمل مسؤولية الاختيار  يكون قد وجد أو وجدتْ الأرضية إلى المشاركة في الحياة العامّة و ليس نهاية الاختيار٠كثيرا ما يقول لي أحد تلاميذي المراهقين  أثناء نقاش مسألة ما: “ أنا اخترت مذهبي و ايديولوجيتي فأقول له “مازالت الطريق أمامك طويلة إذ عليك أن تتعمّق في مبادئ مذهبك الفكري و أن تطلع على المذاهب الأخرى لتعرف ما يوافقك وما يختلف، و عليك أن تكوّن زادا معرفيا واسعا نسبيا وأن تعرف فنّ المناظرة و التفاوض  فإذا تمّ لك ذلك يمكن أن تتحدث عن الالتزام  الذي قد يكلفك كثيرا من التضحيات.

قال محدثي: أعتقد أنّ التكوين الذي تحدثت عنه لا يكون الا بالانخراط في العمل الحزبي٠

قلت: إن الانخراط الحزبي يهدف دائما إلى الحكم و هو يمثل الوصول الى مرحلة من النضج السياسي و النضال من أجل المبدأ و هنا الصعوبة بالنسبة إلى امرأتنا فهي ستكون مضطرة إلى التفرغ للاجتماعات السرية والعلنية ليلا كانت أو نهارا مع ما قد يتعرض له المجتمعون من مداهمات و إيقافات، ولا تغرنّك الادعاءات الزائفة بالديمقراطية.

قلتُ سيكون الالتزام صعبا على المرأة لأن مجتمعنا يبطن غير ما يعلن إذ مازالت قيود الشؤون المنزلية و الإشراف على الأبناء في دراستهم و ذهابهم وأيابهم وأكلهم ولبسهم مفروضة على المرأة و قد نوكل إليها شرف مساعدة الرجل في عمله السياسي بتوفير الأجواء المستقرة الهانئة له. 

إنّ القوانين لا تمنع المرأة من ممارسة السياسة، ولكنّ المجتمع الذي يتحكم به الذكور يفعل ذلك.

قال محدثي:

بالنظر إلى بيئتنا السياسية والاجتماعية وإلى ما يقتضيه الخوض في عالم السياسة من تكوين وتدرّب ومن تسخير المال والوقت والنفس لفرض الرؤية المذهبية التي نراها الأصلح لإدارة شؤون البلاد، ومن انفتاح فكري يسمح بإيجاد الحلول والبدائل لكل المشاكل ومن تضحية بالمصالح الفردية في سبيل المصلحة الوطنية العليا فأنني على يقين الآن بأنّ الرجالَ أنفسهم في عالمنا العربي أبعد ما يكونون عن السياسة.

عرض مقالات: