أواصل ما كتبته في حلقة سابقة عن ايام وذكريات وصفحات في جريدة " طريق الشعب" ، بعنوانها البارز، وبمانشيتها العريض بالحبر الاحمر، برئاسة التحرير الرفيق عبد الرزاق الصافي (ابو مخلص) عضو المكتب السياسي. وصاحب الامتياز الرفيق ثابت حبيب العاني (ابو حسان)، عضو المكتب السياسي. انغمرت في شؤون السياسة كتابة وتحليلا وعرضا صحفيا، (واظبتُ على كتابة رأي وتحليل سياسي على العمود الأول من الصفحة الثانية باستمرار بتوقيع؛ أبو بشير) ولم أنقطع عن الأدب اهتماما وفعلا، حيث نشرت الشعر والنقد والقراءة الثقافية في الجريدة والصحافة العراقية والعربية المختصة، إلا ان الورشة اليومية، وجدية الاسهام في صحيفة شيوعية تشغل الكاتب، وتضمه إلى ماكنة الإنتاج الآلية، وواجباتها على حساب الزمن، والمهمات والنشاطات الاخرى. وتثير النشاطات المتميزة، كعادة عربية أو عراقية، "حسد" او "غيرة" بعض من العاملين او المشاركين في العمل الصحفي او الثقافي عموما، ويتجاوز بعض منهم حدوده ومحدوديته في مثل هذا الجانب او الزاوية. ولكن العمل الدؤوب والجدية في الأداء وحتى الحماس في القناعة بما كنت أكلف أو أقوم به، يجعلني لا أعير لها بالا كبيرا، ونلت تقديرا وشكرا من المسؤولين عن العمل، رئاسة وهيئة التحرير، على ما بادرت به أو انتجت عمليا وملموسا لاسيما حين تولي مهمة سكرتير التحرير، عند غيابه سفرا بمهمة او بإجازة اعتيادية، خلاف "الناعقين"!.
ساعات العمل مثل دوام الدوائر الحكومية، لكن الكثيرين لم يحسبوا لها او تعاملوا بها، خلاف بعض من توظف شعورا ومسلكا و"نضالا"، ولم يتقاعد في عمله. وقد كانت التضحية والإيثار سيدة الموقف، والالتزام والمسؤولية الجماعية والفردية في كل المجالات، من العمل في لسان الحزب إلى الهيئة الحزبية والاجتماعية.
مع وصول لفات/ رزم الأوراق القادمة من وكالات الأنباء كانت لقاءات الصباح اليومية تنفيذا للبرامج وتوزيعا للمهمات والتكليفات. اختص أبو خالد (فالح عبد الجبار) بالشؤون الدولية وأنا بالعربية. وكان المرحوم أبو علي (الشاعر رشدي العامل) يصلنا متأخرا كعادته، تفوح منه رائحة التعب والسهر يسأل عن مهمته ويحمل حصته التي أعدها له أبو خالد ويعود إلى خمارته ليرتوي بكسر خماريته، عند بار سينما النصر، وبعد فترة الغداء يعود حاملا تعليقا سياسيا، يثير استغراب غير العارفين به، في قوة سبكه ولغته، مغزاه، وهو في تلك الحالة من السكر والمعاناة والسياسة والشعر والمرأة.
وقبل ان يدخل الزميل "زكور" (إبراهيم الحريري) القسم تكون زقزقة جرس دراجته قد أعلنت وصوله. ويسرع إلى طاولته، ليكسر جدية المكتب وحاجز الصمت بفاتحته المعهودة، "أي... اكو الله" ويرددها لكل من يفتح الباب، خاصة من أعضاء "هتج" الذين يرتاح لهم! وقبل ان يودعنا يترك لنا مساهمته، تعليقا او تحليلا سياسيا لمواضيع ذات اهتمام او لأحداث بارزة، بأسلوبه المتميز، ولغته الهادئة، وخطه الواضح، ويسرع بدراجته للعمل الثاني.
يأتي الزميل عبد الإله النعيمي من عمله الأول، بعد الغداء، تصحبه حقيبته اليدوية الحافلة بالأوراق والملفات ليسطر ترجمة لما يختاره منها بالتشاور خلال سويعات. ويتعامل مع المواد حسب الأهمية والقيمة، والحدث والإضاءة لها.
في نهاية كل اسبوع يجرد كل قسم في قسيمة تثمين المشاركة في تحرير الصفحة وإنتاجيتها، كنت منتجا ومتفرغا بالكامل، وفي الساعات الأخيرة للعمل قبل العطلة الأسبوعية يبدأ التفكير والتشاور بجدول تنشيط خلالها، وبرنامج او فقرة ترفيه بعيدا عن الجدية المهيمنة، وتكليف من ينفذ ذلك، اذا تم الاتفاق، او ترك الأمر لكل منا ومشاريعه.
أجد كل صباح على طاولتي في القسم وردة جوري بكاس ماء. ولأنها فقط على مكتبي أثارت تعليقات، ولم تسلم من غمزات، ربما من الغيرة، وكنت فرحا بها رغم أني لم أعرف مقدمت(ها) ومراميها، "افتراضا"، حيث كانت تبعث الجمال في غرفة السياسة ورجالها "الخشنين"، ولو السياسة "فن"، ولها ايضا رموزها واشاراتها، والعاقل يفهم!.
ومع الرائحة الزكية للزهرة الصباحية، وهيل الشاي الذي يتسابق فتية طيبون، رفاق شباب، على توزيعه بأوقات معلومة، و"متاعب" الارشيف والإدارة والمطبعة، والترجمة والطابعة وغيرها، كانت رائحة النعناع طاغية في أكثر وجبات الغداء، التي كنا نتناولها في حديقة الجريدة الخلفية، التي تعدها الادارة بمشاركة رمزية من المحررين، وبمودة عائلية لأسرة التحرير. (وكانت تساعد بها اضافة إلى عملها الاساس في الجريدة المرأة المضحية ام جاسم).
وددت هنا الاشارة فقط إلى أقسام أخرى في الجريدة، واتمنى ان يكتب عنها من بقي حيا من الرفاق العاملين فيها. فإضافة إلى القسم الأكبر في الجريدة، الذي يحرر صفحات عدة تبدأ من حياة الناس والعمال والفلاحين والطلبة والشباب والمرأة ومختصات النقابات المهنية وما يرتبط بها، وهو القسم الذي يضم عددا كبيرا من المحررين والمساهمين والمنتدبين والمتعاونين، وبمسؤولية الراحل عبد السلام الناصري، عضو المكتب السياسي وعضو هيئة التحرير، وسكرتارية الرفيقين مخلص خليل وزهير الجزائري وربما آخرون. ولابد من ذكر قسم الادارة والمالية، حيث لا يختلف عن غيره من أركان العمل الإداري، شاملا إعداد وجبات الطعام والشاي والاستعلامات والحراسة والنقل وغيرها من شؤون عمل القسم.
وكذلك هناك قسم آخر من الجنود المجهولين في الجريدة وهو قسم الأرشيف، في تلك الأيام وصعوباته وتعقيدات العمل اليومي فيه، أعرف فيه الرفيقة سهام الظاهر، ومعها رفيقات ورفاق اخرون، لا أتذكر أسماءهم الان. وبالتأكيد تبتعد اسماء رفاق آخرين كانوا الجنود المجهولين في حياة الجريدة اليومية، كما في تحرير الصفحة الاولى وظروفها ومتطلباتها، وكذلك الصفحات، الأخيرة والرياضية والمنوعات…
الحياة في صحيفة طريق الشعب لم تكن كلها ماكنة عمل اعلامي وسياسي، فهناك لقاءات اجتماعية وعائلية نهاية كل اسبوع، وبداية الشهر، وسفرات القسم والجريدة الجماعية، كلها محطات استراحة، فيها ذكريات أيضا، ولها معان!. من بين تلك السفرات، سفرة إلى جزيرة ام الخنازير، على سفينة صغيرة، وكان عريف السفرة والحفل، الزميل عبد المنعم الأعسم، (أبو حارث)، وكان يردد جملا محددة، اصبحت محفوظتنا المتداولة حتى بعد تلك السفرة التاريخية. وكانت فرقة (العتابي) الموسيقية، مديرة القسم الفني في كل السفرة وكذلك في الاحتفالات الأخرى.
رغم تقادم الزمن، وتباعد المسافات، ما زلت اشم رائحة الوردة والنعناع، وأتخيل صورة الحديقة، والسفرات، ووجوه العاملين في الطريق بمحبة ومودة واعتزاز.. فهل ستعود تلك الايام؟ التقيت ببعضهم في فصائل الأنصار أيامها، وبعدها في المنافي العديدة، لكن في المنافي دروبا كثيرة. منهم من أكمل دراسته وعمل بشهاداته، ومنهم من واصل العمل الصحفي في المؤسسات الاعلامية، وأبرزها الفلسطينية، ايام انفتاحها الإعلامي وانتشارها وتنافسها الفصائلي، وتدرج في درجات الرقي الوظيفي والمالي والعناوين الإدارية أو الإعلامية المؤشر لها، ومنهم من اغرقته المنافي في لجتها وترتيباتها، وتلك سنة الحياة.
كانت طريق الشعب مدرسة، تعلّم فيها كل من دخلها عاملا ومتفرغا في صفحاتها، وعاش متاعب العمل في صحيفة سياسية في ظروف غير سياسية، بمعناها الطبيعي.
وآخر الأمر لابد من القول ان ما كتبته لمناسبة ملف عن "طريق الشعب" عام 1994، وأعدت نشره مع إضافات له، احتفاء ورسالة ذكرى وتذكير في كلمات من دفتر الأحوال، لابد من الاشارة إلى أن بعض الأسماء التي وردت رحل عنا وافتقدناه، (كنت قد ذكرتهم في صفحات سابقة): شمران الياسري، هاشم الطعان، إبراهيم اليتيم، خالد السلام، عبد اللطيف الراوي، رشدي العامل، يوسف الصائغ، سعود الناصري، رجاء الزنبوري، حميد بخش، ماجد عبد الرضا، أم الجاسم، وسامي حسن، ومؤخرا صادق البلادي، وفالح عبد الجبار، وعبد الرزاق الصافي، وعبد السلام الناصري، وصباح الشاهر، ومصطفى عبود، وإبراهيم الحريري، وفائق بطي، ونوزاد نوري، وربما غيرهم، اعتذر لعدم تذكرهم، خاصة الجنود المجهولين في العمل الإعلامي او الإداري او ما يرتبط بهما من أعمال ليست بسيطة أو سهلة في تلك الايام، وأدعو بالرحمة للجميع.
سألت صديقي اذا يتذكر اسما لرفيق رحل ولم اذكره، كعادته أخذ يردد شعرا للإمام علي:
تُؤَمِّلُ في الدُّنْيا طويلاً ولا تدري *** إِذا حَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعْيشُ إلى الفَجْرِ
فكم مِنْ صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَير عِلَّةٍ *** وَكَمْ مِنَ عَلِيْلٍ عَاشَ دهرا إلى دَهْرِ
وَكَمْ مِنْ فَتىً يُمْسِي وَيُصْبِحُ آمِنا *** وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لاَ يَدْرِي