اخر الاخبار

تحتفي الأوساط التقدمية هذا الشهر بالذكرى التسعين لانطلاق الصحافة الشيوعية العراقية، التي ارتبطت منذ نشأتها ارتباطًا وثيقًا بالنضال الطبقي وهموم العمال والفئات الكادحة.

لم تكن الصحافة الشيوعية يومًا لسان حال حزب أو وسيلة دعائية فحسب، بل كانت منبرًا حيًا للمهمّشين، توثّق معاناتهم، وتعبّر عن مطالبهم، وتفضح السياسات الرأسمالية الجائرة التي تكرّس الفقر والتهميش.

فمنذ صدور أولى الصحف السرية المرتبطة بالحزب الشيوعي العراقي في ثلاثينيات القرن الماضي، مثل "كفاح الشعب" و"الشرارة"، ثم لاحقًا "اتحاد الشعب" و"طريق الشعب"، وضعت هذه الصحف العامل في قلب خطابها. وكانت مقالاتها لا تخلو من الإشارة إلى قضايا الأجور وساعات العمل والضمان الاجتماعي، كما تبنّت خطابًا صداميًا تجاه الاستغلال، وفضحت بشجاعة ممارسات أرباب العمل في حق العمال.

صحافة ميدانية لا مكتبية

واحدة من السمات المميزة للصحافة الشيوعية هي نزولها إلى الميدان. لم تكن تُكتب من خلف المكاتب أو تحت ضوء المكيّفات، بل اختلط مراسلوها بالعمال في المصانع والورش والأسواق.

وفي كثير من الحالات، كان العامل نفسه هو المراسل، يبعث برسالة بخطه المرتبك، لكن بصوته الواضح، يُخبر فيها عن حادثة طرد تعسفي، أو إضراب سلمي، أو إصابة في مكان العمل.

ويُعزى الفضل إلى هذه الصحافة في توثيق العديد من الحركات العمالية التي غابت عن التغطية الرسمية، خصوصًا خلال العهود القمعية. فعلى الرغم من التضييق والملاحقات الأمنية، ظلّت هذه الصحافة تواصل رسالتها، متنقلة بين مطابع سرية وتوزيع محدود، لكن بأثر بالغ.

قضايا العمال في صدارة الصفحات

لم يكن الحضور العمالي في الصحافة الشيوعية هامشيًا، بل غالبًا ما تصدرت القضايا العمالية الصفحات الأولى.

حين كانت معظم الصحف تُسوّق لخطابات الساسة والمصالح الطائفية أو العشائرية، اختارت الصحافة الشيوعية تسليط الضوء على مصنع أُغلق، أو احتجاج عمال نظافة، أو قانون يُمرر لتقليص حقوق العاملين في القطاع الخاص.

وقد ساندت هذه الصحافة، عبر حملاتها المستمرة، تشريعات العمل التقدمية، ودافعت عن الحريات النقابية، وأدانت المحاولات المتكررة لتفتيت الحركة النقابية عبر تكوين "نقابات صفراء". كما أولَت أهمية كبيرة للعمالة غير النظامية، تلك الفئة المحرومة من أبسط الحقوق، والتي غالبًا ما تُستخدم وقودًا لأرباح الشركات دون أي ضمانات.

ذاكرة نضالية حيّة

العودة إلى أرشيف "طريق الشعب" تكشف عن خط نضالي متصل. من تغطية إضراب عمال السكك الحديدية في خمسينيات القرن الماضي، إلى معارك موظفي العقود بعد عام 2003، كانت الصحافة الشيوعية دومًا شاهدة وشريكة.

لم تتعامل مع الشأن العمالي بوصفه خبرًا عابرًا، بل باعتباره صراعًا اجتماعيًا متجددًا يتطلب موقفًا وانحيازًا، لا حيادًا زائفًا.

كما لعبت دورًا بارزًا في بناء الوعي الطبقي. فعبر التحليلات الاقتصادية والسياسية، تمكّنت من الربط بين السياسات الحكومية وتدهور أوضاع العمال، وكشفت عن الأجندات الاقتصادية للمؤسسات المالية الدولية، التي غالبًا ما تملي شروطًا على الدول الفقيرة تؤدي إلى خصخصة القطاعات العامة وتسريح العمال.

تحديات الحاضر واستمرار الرسالة

في الوقت الراهن، وعلى الرغم من التحديات، ما تزال "طريق الشعب" مثالًا على الصحافة المناضلة، إذ تحافظ على خطها التقدمي، وتُخصص صفحات أسبوعية لتغطية الشأن العمالي والنقابي، إضافة إلى تقارير ميدانية من المدن والمناطق المهمّشة.

وقد ساهمت هذه التغطية في إعادة تسليط الضوء على معاناة شرائح واسعة من الشباب العاملين في القطاع الخاص، والعاملات في المعامل المنزلية، وسائقي التوصيل، وغيرهم من الفئات التي قلّما تجد صدىً في الإعلام السائد.

احتفاء بالنضال وتأكيد للانحياز

الذكرى التسعون للصحافة الشيوعية ليست مناسبة للاحتفال بتاريخ مجيد فحسب، بل فرصة لتجديد العهد مع صوت العامل، ومع من لا صوت له.

إنها مناسبة لتأكيد الانحياز إلى الصحافة المناضلة، تلك التي لا تبحث عن الربح بل عن التغيير.

لقد أثبتت هذه الصحافة، عبر عقودها التسعة، أن الكلمة يمكن أن تكون سلاحًا، وأن مقالة صادقة قد تُغني أكثر من آلاف الخطب.

وفي زمن تُسلّع فيه الحقيقة وتُزيّف فيه الوقائع، تظل الصحافة الشيوعية العراقية قلعةً للمبدأ، وحصنًا للطبقة العاملة، ولسان حالها النزيه.